لا أعرف لماذا كوثر بالضبط ..
ربما لأنها كانت بنت المعلمة سليمة التي درستنا في القسم التحضيري .. ومجرد أن تجلس جنبك في نفس الطاولة حظوة لا ينالها أي كان .. كانت معلمة قصيرة القامة وبيضاء البشرة فوق اللزوم كما بنتها ولا يشبهاننا نحن المقمحين تحت الشمس طول النهار ..
الخامسة هي ساعة مغادرتنا المدرسة كل مساء ، كانت سيارة زوج المعلمة كعادتها مركونة في باب المدرسة والزوج ذو الشنب الأسود الجميل يقف قريبا منها يحادث (بّا علي )الحارس .. ( سّادة سليمة ) تتمايل في مشيتها نحو سيارة(الفياط )بينما كوثر تجري نحو أبيها لترتمي في حضنه ويرفعها في الهواء إلى صدره .. ثم يقبلها ويركبها خلفه في السيارة البيضاء و ينطلق نحو فيلات المدينة الجديدة ..
كنت أنا أتأمل كل يوم هذا المشهد بغرابة كما لو أنه حلقة من مسلسل أنتظره كل مساء ..
كل شيء كان جميلا في هذه المشاهد حقا بداية من السيارة ،فمجرد أنهم يمتلكون سيارة يركبونها معا ويبتسمون بهذه الطريقة فهذا يجعلهم في ذهني الصغير من الأثرياء الذين يقترن منظرهم بالأحلام .. نحن كنا نعيش في أحياء لا تصلها السيارات على ندرتها في ذلك الوقت رغم أننا كنا نتنفس نفس الهواء كل صباح مع أصحاب القصور والفيلات المجاورة .. وبدل السيارات كانت الدروب تملؤها رائحة روث الحمير .. الحمار صديق الجميع هنا وهو يصلح لألف مهمة ليس أقلها أن يقلك كل المسافة الضرورية إلى قلب ( رحبة الزرع ) في المدينة العتيقة لعلك تظفر بلحيمات لا تسأل عن مصدرها من ( جناح الأمان ) .. وقد تصير في أي لحظة ( طالب معاشو ) و يحتاجك أحدهم لحمل أغراضه إلى أي جهة مقابل دريهمات تكفي لملء( الشواري ) بآخر ما يتبقى من خضر في ( باب الجديد) .
الحمار كائن يشبهنا في حاجته للعب وعليك كل ظهيرة أن ترافقه للخلاء حتى يتمكن من ممارسة(الهرنطة )الشبقية وهو يتمرغ على جنبيه مملحا جلده في التراب .. وبعدها يتحول إلى كائن وديع يمكنك أن تركبه دون مجازفة ويجري بك إلى حيث تريد ..
لك أن تتخيل نفسك أي فارس تريد ولك أن تقيم غزواتك الآن وأنت تمتطي هذا الفرس الذي صنعته في خيالك وتسارع بلا هدف فوق أرض الله ..
(( أطلق البارود الآن )) ..
كنت تقول لنفسك وكأنك تقود سربة ( تبوريدة ) في ساحة ( بني امحمد ) أيام عيد المولد قبل أن يتوقف الحمار أو يتعثر و يرميك على الأرض لتحمد الله أنه لم يكسر عظامك و يدُسك بقوائمه لتنجوَ من ركلاته العجيبة وهو يقذف بحممه وراءه ..
قد يقول الكبار أن الحمار ( حمار ) فعلا وهو مثال لقلة الحياء فمن غيره يطلق عنان استعراضاته في الساحات العامة بحثا عمّن تلبي رغبته الحميمية من إناث نوعه الحميري دون التفات لأي كان ، يكفيه أن يشتعل رغبة ليطلق هلوساته ويصبح فرجة لنا نحن الأطفال وتكتمل أمسيتنا بهذه الفرجة الحمارية التي تؤثت نهارات أطفال هم أغلب تلامذة ( مدرسة إبن الونان ) .. لا يهم من يكون إبن الونان هذا لأنك ستعيش عمرك وأولادك سيدرسون في نفس هذه المدرسة دون أن يخبرك أحد من يكون هذا الرجل ولن تجد بطاقة تعريف له في جنبات المدرسة التي يضبط إيقاع الصمت فيها ( مولاي الحسن ) المديرالمعروف بصرامته وقضيب الزيتون الذي لا يفارق يده .. و (ذنبك على جنبك) ..
قبلة زوج المعلمة سليمة على خد كوثر كانت تدهشني فكيف لرجل أن يقبل أولاده ؟
نعم نحن أيضا كان آباؤنا يحبوننا أيضا وربما أكثر من أزواج المعلمات لكن حبهم كان بطعم آخر لا دخل فيه للأحضان والقبل بل كان حبا ينطلق مع فجر كل يوم يخرج فيه أبي إلى أرض الله يقطع من لحمه حتى العصر لعله يرجع إلى أولاده بما يسد رمقهم في عملية يومية لا مكان فيها للتخطيط والتفكير فيما سيحمله الغد ..
كان المهم أن "نأكل اليوم " و غدا (يحن الله ) ..
قد تعيش مع أبيك قرنا من الزمن تحت نفس السقف دون أن تلمس شفاهه خديك ،
..( الحياة لم تخلق للقبل يا ولدي بل للشقاء )
لم أكن أحسد كوثر على حنان أبيها يقينا لأن تشققات كف أبي كانت عندي بكل نظافة وجمال و قداسة الكون .. لكن في هذه الأسر (الثرية )إخراج آخر للحب فقط ..
كوثر جاءت للمدرسة وهي تتقن القراءة والكتابة بينما نحن كان وجودنا هنا مجرد صدفة اضطرارية رتبتها ظروف المرحلة .. أنت لا تختار أن تكون ذكيا ولا أن تكون الأول على صف دراستك .. هي أشياء كانت تأتي ربما بالصدفة أيضا لكن هذا لم يكن يرق دائما للمعلمة سليمة فبنتها يجب أن تكون الأولى والأحسن في كل شيء .. لكن للطبيعة مفاعيلها وكان على كوثر أن تقنع بالرتبة الثانية فقط ..
لا يمكن أن أسمي العلاقة بكوثر منافسة فهي بنت المعلمة أولا وأخير .. وأين أنا من أبناء المعلمين .. والمعلمات ؟
كانت جريمتنا فعلا أن نكون متفوقين في دراستنا حقا ..
صورة كوثر كانت تختلط في ذهني مع اللعب و (المونيكات) وألوان بابا نويل التي أشاهدها على فيترينات المقاهي في حمرية ،أو هكذا كنت أرى كوثر على الأقل ..
تلميذة نحيفة بضفيرتين ، قصيرة القامة لكنها نظيفة أكثر مما يجب .. قد لا تكون جميلة بالنسبة للآخرين لكني أنا لم أكن أرى سواها في القسم .. ولم يكن أمامي من وسيلة كي أثير انتباهها سوى أن أكون الأول في حفظ القرآن والأول في الحساب والأول في الأشياء والأول في المحادثة ولا أحد سواي سينال رمز الأسد على دفتر الإمتحانات ..
حتى ريشتها الغليضة التي تكتب بها كانت متميزة عنا بينما نحن كل يوم يترك مداد المحبرة بصماته المتسخة على دفاترنا .. صغيرة كانت وأنيقة فعلا وهي تلبس كل يوم فساتين بكل الألوان بينما نحن لا نفارق الأسود والرمادي ..
كنت أحمل صورة كوثر في صدري للبيت وكل مساء عندما أنهي ساعة التهييء آخد كتاب القراءة وأتصفح صوره من أولها لآخرها .. كنت أستمتع باختيار أجمل لباس لكوثر .. أتجول في صور الأسواق وتأكل من يدي كل الحلويات المعروضة ،لا أعرف كيف أختار لها من بين كل الدميات المرسومة في كتاب القراءة وكأني أختار كيف سيكون شكل أولادنا أنا وكوثر .. ما يهم أن السيارة (الفولكسفاكن) الحمراء التي اخترتها لها كانت أجمل بكثير من الفياط الصغيرة التي كان أبوها يتباهى بها أمامنا كل مساء ..
لم يكن مهما أن أعرف ما هذا الذي أحسه ولا ما أعمله وكوثر ترافقني حتى أغمض عيني،
..( ليس هذا حبا فالصغار لا يحبون(كما يقول الكبار دائما
بل إن حب الكبار نفسه فيه نظر .. لم يكن شيئا واضحا له تعريف محدد لكنه كان إحساسا جميلا ،كانت كوثر عنوان نبض قلب يتطلع للحياة يقودني كل ليلة مع ألف صورة لها تسكنني حينها حتى أستفيق على صوت أمي :
( وا عنداك الشمعة تحرق السداري .. نوض تنعس )
لم أكن أعرف حينها أنه يتوجب علي أن أقبّل كوثر قبل النوم فهذا حب الكبار ولا شأن لي أنا به .. كنت فقط أطوي الكتاب وأنضم لكتيبة النوم بينما أختي فاطمة تناشد جدتي (رحمة)أن تكمل ( محاجية )الليلة السابقة ..
( هينة يا هينة .. آش عشاك يا هينة .. أنا عشايا الفتات و الرقاد بين البنات ) ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق