في الصباح يستيقظ الجميع إلا هو فانه لم ينم أصلاً , فقد ظل طول الليل يفكر فيما حدث له , وفي كل ما يحدث حتى كاد عقله أن يتوقف من كثرة التفكير, ولم يستطع أن يستوعب كل هذا الكم من الاشياء الغريبة التي تحدث حوله , وهو لا يكاد يصدق نفسه ,
يسمع أصوات العصافير والحمام من حوله لكنه لا يرى شيئاً, يتساءل في نفسه
"هل يعقل هذا , أو هل يُصِدق العقل هذا الكلام , هل يعقل أن ينتقل بين غمضة عين وانتباهها إلي الألفية الثالثة, في غمضة عين , وهو لم يزل في القرن الواحد والعشرين مستحيل طبعاً ,
نعم هو قرأ عن هذا في الكتب الصفراء والبيضاء الشيء الكثير بل وشاهد عشرات الأفلام والفيديوهات التي تتحدث عن هذا الأمر وكثيراً من القصص التي عالجت هذه الفكرة في السينما أيضاً , لكن كل هذا كان لا يتعدى كونه خيالاً في خيال برؤوس مؤلفين شطحوا بعيداً بعقولهم وتخيلوا هذا الأمر , وراحوا يحلمون به, وهو واحد منهم , لكن أن يصبح كل ما قرأه في الكتب وما شاهده في الأفلام من خيال إلى حقيقة يعيش فيها هذا شيء محال وفوق الخيال نفسه " ,
يرجعه من تفكيره وشروده صوت هذا الشاب النائم بجواره "يحيي" وقد استيقظ توًا, يخرج من منامته البنفسجية وهو نشيط , ليرتب غرفته الصغيرة , ويعيد كل شيء على ما كان عليه من قبل وذلك بمساعدة الانسان الآلي الذي اشتراه من أول راتب له ليقول له وقد قام من مقامه , ليُجري بعض التمرينات الرياضية التي تعود عليها كل صباح وقد خرج من شرنقة نومه البنفسجية ,
ــ صباحك سعيد صديقي العزيز ,
ــ ...............................
ــ يبدو أنك لم تنم جيداً ليلة أمس ,
ــ ............................
يكتفي بالنظر إليه وهو يهز له رأسه بالإيجاب, يبادره صديقه "يحيي" وهو يقول له بعدما
جلس لجواره بعد فراغه من التدريبات الصباحية , وراح يجري محادثة مع أصدقاه في العمل
ثم يعود لما كان علية من تمارين صباحية :
ــ هيا يا صديقي كن معي , ألا تحب الرياضة , إنها مفيدة جداً للجسم والعقل معاً
ــ ..............
كان يستمع ‘ليه وهو يبحث عن سجائره التي نفذت وفرغت منذ ليلة أمس لعله يجد واحدة يُشعلها وينفخ فيها كل ما بداخله من حنقٍ وغيظٍ , وأشياء أخرى غير مريحة بداخله ..
بحث في جيوبه أكثر من مرة , فلم يجد شيئا , فهداه تفكيره بأن يبحث في حافظة نقوده , فكثيراً ما يضع فيها سيجارة أو سيجارتين وبالفعل وجد ضالته , سيجارة مكسورة ,
ينتهي " يحيي" من تمارين الصباح , يدخل الحمام ليأخذ دش من الماء الفاتر, بينما صديقه يجلس في وجوم وحيطة وحذر متحفزاً لأي شيء خائفاً يترقب ,
تذكر أنه كان قد وضعها في حافظة نقوده حتى يشتري لها دفتر" بفرة ", وقبل أن يمد يده إليها أخرج هويته , بطاقة تحقيق الشخصية, قرأ بياناتها , الاسم , السن, العمل , العنوان , الرقم القومي , وقبل أن يضعها مكانها , صدمت يده ورقة كبيرة بعض الشيء فظن أنها ورقة يقبع بداخلها احدى القصائد التي كان قد كتبها , سرح بعقله بعيداً للحظة وتذكر أنه طبع له خمسة دواوين شعر , وكذلك ستة مجموعات قصصية, ورواية جديدة في عام واحد فقط الفين وواحد وعشرون " 2021 " وكتبه تجوب المعمورة كلها وتتصدر قامة المبيعات في المعارض, وتذكر أيضاً أنه كان في طريقه لاحدي المؤتمرات الأدبية المهمة التي دُعي إليها ووُجِهتْ له دعوة رسمية من وزارة الثقافة, وتذَكر أيضاً أنه كان في القطار قبل أن يجد نفسه في هذا الكابوس وهذه التوهة ,...
خرج من تداعياته سريعاً لينظر في الورقة التي ترقد في حافظة نقوده بجوار بطاقته الشخصية, أخرجها, نظر فيها, يقرأ ما في جوفها, هو يبتسم في نفسه, وهو يتمتم
" إنها روشته طبيب " قرأ اسم الطبيب .. فتذكر .. أنه كان قد قام بالكشف عنده بعدما أصابته نوبة برد شديدة مع نوبة صرع.. فكثيراً ما يأتيه هذا الدور" البرد " وخاصة في الشتاء حتى صار يكره فصل الشتاء ويعده من ألد أعدائه , لكن الشيء الذي أدهشه هو أنه لم يتم العلاج بعد فالتاريخ والارقام التي على " الروشته " يشير بأنه لم يُعد الكشف بعد عند الطبيب , واصل القراءة , تذكر أنواع الدواء الذي كتبه له الطبيب , تذكر , وتذكر,
وتذكر أيضاً كلام الطبيب له وهو يبتسم في وجهه ويهدِّئ من روعه ,
ــ الموضوع بسيط ولا يستدعي كل هذا القلق والتوتر ,
ــ عندي ايه يا دكتور .. صارحني أرجوك
ــ قلت لك الأمر بسيط وهين ..
ــ كيف ..؟!.. ماذا.. ؟!
ــ دور برد يا سيدي , وستأخذ هذا العلاج وتشفى منه إن شاء الله تعالى ..
ــ ربنا يجعلك سبب يا دكتور, ولكن هذا العلاج فيه مهدِّئ للأعصاب , يعني نوع من أنواع الادمان يا دكتور ..
ينظر إليه الطبيب نظرة تعجب وهو يرفع يده وعينه من فوق الورقة " الروشته " ليقول له بنفس ذات الابتسامة التي اتسعت على وجهه حتى بانت أسنانه البيضاء :
ــ مين قال كده , لا يا سيدي , ده بس عشان التوتر الذي لديك والانفعال الذي عندك عشان تهدأ وتنام بالليل , ولا تفكر كثراً , وأشوفك مرة ثانية إن شاء الله بعد أربعة أيام ..!!
يمد يده وهو يشكره, فيضغط الطبيب على الجرس, وهو يمد يده ليودعه, وينصرف ..!
عاد ليجد نفسه في نفس الكابوس المزعج , كوَّر ورقته " الروشته " ثم وضعها مكانها , وجلس ليشعل سيجارته, وراح يسأل نفسه, وهو يحاول أن يخرج من هذا المأزق وذاك الكابوس المزعج وهو يسترسل في تداعياته , وتفكيره ....
" أيكون فعلاً كما قال الطبيب بأن كل هذه أوهام , وبأني متوتر ومضطرب ويلزمني الهدوء والراحة, أيكون فعلاً كل هذا بسبب هذا الدواء الذي كتبه الطبيب لي, جعلني أهذي, وبأن كل هذا أوهام في أوهام برأسي بسبب هذا الدواء اللعين , وأن الأمر لا يتعدى كونه كابوساً في منام وفقط , وكل هذا ما هو إلا مجرد تهيؤات .. "
أعاده إلى نفسه صوت صديقه وهو يسأله .. ماذا كان يصنع آنفاً ..؟!!, ..
فأخبره بأنه يشعل سيجارة ,..
لكنه أعاد سؤاله مرة أخرى وسأله عن الورقة التي كانت في يده , فاقترب منه , همس في أذنه ــ ماذا كنت تقرأ ..؟!.. وما الذي كان في يدك ..؟!,
فهذا الأمر كان غريباً بالنسبة له وألفت انتباهه , فهز رأسه وأجابه دون اكتراث ليجيب فضوله ــ روشته طبيب ليس إلا .. ,
فضحك "يحيي" حتى مال على ظهره وهو يقول له :
ــ أرني ماذا كتب لك ..؟!..
يُمسك الورقة "يحيي" من صديقه القادم من العالم الماضي بعدما كان قد أخرجها له, وراح يقرأ ما فيها في صمت ثم نظر إليه هو يضحك , في تعجب, وقال له:
ــ ما الذي يضحكك أيها الفتى ..؟!.
دفع إليه لورقة وهو يقول له ويواصل ضحكه
ــ هذه أشياء كانت في الماضي وعفى عنها الزمان يا صديقي, نحن في الالفية الثالثة ,ألا تعلم ذلك , كل شيء هنا يعمل بحساب دقيق, وليس هناك احتمال خطأ ولو واحدٍ في المائة
كان يستمع إليه وهو يدفع الورقة في جيبه دون مبالاة لما يقول , وواصل شحذ نفسٍ عميق من سيجارته الأخيرة, ثواني معدودة يحدق فيها بعيداً , وكأنه يفكر في أمر ما ..! ,
ثم التفت إلى صديقه وهو يقول له :
ــ أنا لم أصدق بعد أني في الألفية الثالثة, والأمر لا يتعدى بالنسبة لي كونه كابوساً لعيناً, وسأستيقظ منه حتماً,
ــ لا عليك يا عزيزي, ولكن هيا بنا الأن إلى غرفة الطعام لقد تأخرنا كثيراً والعائلة في انتظارنا ..!,
ــ أنا لست بجائع ,
ــ حسناً لكن لابد من الجلوس مع الأسرة, والعرض على الجهاز ..!
ــ أي جهاز .. ؟!..
ــ لا تخف يا صديقي فإنه جهاز الطعام , ليس جهاز كشف الكذب, ألا تعلمه, أنسيته ..!!
ــ حتى ولو كان, ليس لي رغبة في الأكل الآن
ــ ولكن هذا البروتكول, والنظام عندنا لابد منه, أم تريد مخالفة النظام يا صديقي ..!
قالها له وهو يقترب منه وهو يهمس في أذنه ,
ــ ثم لا تنسى الدفء والترابط الأسري ,
وأمسك بيده وخرج معه إلى غرفة الطعام , ليجد أمه وأخته مريم في انتظارهما ,
وكان في الطريق يحدثه عن أهمية الترابط الأسري الذي أغفلوه في الماضي , وهو لا يسمع إلا أصوات الكواكب والنجوم التي تدور في الفضاء البعيد ,
يدلف يحيي إلى غرفة الطعام ومعه صديقه وهو يقول :
ــ صباح الخير ماما , صباح الخير مريم
ــ صباح السعادة والسرور, حبيبي , كيف حال صديقك البارحة ,
ــ بخير يا أمي والحمد لله رب العالمين
يتناول الجميع طعام وجبة الفطور , وهو ينظر إليهم , وينتظر أن يفرغوا لينصرف كل منهم إلى ما يجب أن يفعله ,..
" يحيى" يأخذ صديقه في رحلة معه إلى مقر عمله حيث مصنع البذات الفضائية , وذلك بعدما يكون قد أعطاه بذة طائرة من بذاته القديمة , وعلمه كيف يستخدمها, ومتى يطير بها ومتى يتوقف ومتى يُهدِّئ من سرعته , فتلك البدلة الطائرة في مستوى جسده , وهو أيضاً على قدر كبير من الذكاء الذي يجعله يتعلم منه بسرعة , فهو مولع بالإلكترونيات منذ الصغر وكان يتمنى ان يكون مخترعاً كبيراً يشار له بالبنان لكن الظروف لم تتهيأ له ولم تساعده الحياة على ذلك ,..
إلا أنه كان يحب القراءة كثيراً بنهم في كل شيء, وخصوصاً في هذا الأمر لدرجة أنه لم يدرس الإلكترونيات ومع ذلك عندما اشترى جهاز الكمبيوتر وكان وقتئذٍ حديث العهد به , استطاع أن يُعلِّم نفسه بنفسه وليس هذا وحسب وإنما أيضاً تعلَّم الصيانة وبرع فيها, وكأنه قد حصل على دورتين " هاردوير , وسوفتوير ", وهو لم يفعل ذلك ...
وراق له الأمر وهو يرتدي تلك البذة الطائرة التي تشبه بذة رواد الفضاء الذين كان يشاهدهم في المحطات الفضائية التابعة لوكالة ناسا الفضائية ,
ضبط "يحيى" كل شيء , السرعة, الوقت , ودرجات الحرارة لتلائم الجو خارج السكن , والمدة المحددة للسرعة ,
وراحا يُحلقان في الفضاء البعيد دون أن يتهيب الوضع وكأنه في عالم خيالي, فقد اكتسب خبرة لا بأس بها من ليلة أمس ومن توجيهات صديقه " يحيى" فضلاً على أنه عنده روح المغامرة والتحدي, والفضول لاستكشاف شيء جديد في للألفية الثالثة حتى ولو كان هذا مجرد كابوس في حلم من وجهة نظره ,
تلمس يده شيئاً ما في بزته الطائرة دون قصد منه فجأة يختل نظام التشغيل فيحدث خللاً ما يعطل الأنظمة يختل توازنه فيسقط فوق المباني المصنوعة من الألياف الكهرومغناطيسية يقترب منه صديقه بسرعة البرق , يمسك بيده حتى لا يصاب بأذى, أو مكروه , وهو يعنفه , وفي نفس الوقت يحاول أن يصلح له النظام حتى لا يصاب بأذى أو سوء , وبعد محاولات دؤوبة منه لم يتمكن من ذلك , ولم يستطع أن يمنع سقوط صديقه, فاضطرا هو وصديقه أن يهبطا هبوطاً اضطرارياً على إحدى السحب الكثيفة التي وجدها أمامه , حتى يفعل شيئاً آخر, فكر فيه حتى يستطيعا أن يخرجا من هذا المأزق الشديد ..... يتابع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق