١. التحليل النقدي
ورغم أن القاصة قد نجحت في جعل القارىء مُنشدًّا للنص ليعرف ماهو الشيء الذي اكتسب مواصفات البشر ضمن عملية أنسنة personification ، لكننا نلاحظ ومن خلال التحدث مع الذات monologue ومنذ الجملة الأولى بأنها أنثى "كنتُ مَرمِيَّةً في كيس لدائني... أوشكتُ على الجنون من الانتظار، أترقبُ بلهفةٍ مجيء الرجل صاحب الكيس آملة في أن يلتقطني ويحررني. لكنه في كلِّ مرَّة يأتي إلينا؛ يمد يده، ويفردُ أصابعه ويغرفُ مجموعة منا، لكن لست أنا.. أنا ما زلتُ منزوية في آخرهِ!". ونلاحظ الإخبار جاء بواسطة "مرمية"، لكننا لم نفهم ماهية هذا الشيء حيث تحاول القاصىة مساعدتنا لكنها في الحقيقة تستدرجنا لفخ بانتظارنا: " نشقُ عنانَ السماء.. نكادُ نلامسُ النجومَ! لكن كان تحليقنا لمدى معين ثمَّ بدأنا بالهبوطِ بلمحِ البصرِ ...". يا ترى.. هل هي حمامة؟ لابد أن تكون كذلك.
وملامسة النجوم تعبير مجازي مبالغ فيه exaggerated virtual interpretation وهذا وارد ومقبول كردة فعل عن كبت الرغبة في التحليق والطيران، يعكس الطاقة الدفينة في الانطلاق كتعويض لحبسها في الكيس اللدائني، ولكن من غير الوارد نقضه، بعد أن جعلتنا القاصة محلقين مع نحو النجوم. "نكاد نلامس النجوم لكن كان تحليقا لمدىً معين.." . " غمرتني مشاعرُ الاندفاع، ألهبتني الحماسة، وازدادت ثقتي بقدرتِي على شقِّ ممرات الهواء وخرقه بلا تعثر ....". وبالتأكيد تمتلك الطيور القدرة على شق ممرات الهواء وخرقه بلا تعثر. وعند مراجعتنا أو بالحقيقة عند قراءتنا المتأنية نرى بعض الومضات التي مررتها القاصة زينب فخري بذكاء قد تجعلنا نستسهلها أو غير مكترثين بها. " لكنه في كلِّ مرَّة يأتي إلينا؛ يمد يده، ويفردُ أصابعه ويغرفُ مجموعة منا، لكن لست أنا.. أنا ما زلتُ منزوية في آخرهِ!" . ونلاحظ "يفرد أصابعه ويغرف مجموعة منا..". يوجد شيء آخر إذن غير الحمام الذي أوهمتنا القاصة بمواصفاته والذي قد يوضع في كيس ولكن لا نفرد أصابعنا لنغرف "نخمط" كمية منه. ونلاحظ أيضاً ومضة أخرى " وبعد سحبٍ ودفعٍ، ضُغطَ على نتوءٍ في مقبضٍ حديدي، أُطلقتْ زميلاتي، ثمَّ جاءَ دوري؛ تنفّست الصعداء.. دُفعِتُ بقوَّة.. . بعد لحظاتٍ سقطتْ أجسادُ زميلاتي اللاهبة على الأرضِ بين أقدام المحتفلين..". لدينا هنا سحب ودفع وضغط على نتوء في مقبض حديدي. ولو اعتبرنا النتوء هو زناد لبندقية وربطناه بوضعني "الرجلُ في البدء بمخزنٍ طويلٍ ومظلمٍ.... "لابد أن تكون الأنسنة لطلقة بندقية أو مسدس حلقت بالفضاء.."، والناس بين " متحمسين ومستاءين ... ". ونلاحظ طريقة إيهام المتلقي وإصرار القاصة على المشاركة الفعالة والذوبان بعمق النص لتفسير ماحدث. ولو ذكرت كلمة "زناد"، كتعويض عن "نتوء في مقبض حديدي" لانكشفت ماهية تلك الأنثى المرمية في كيس لدائني، وبنفس الوقت يفقد النصص بعض التبئير الذي يعطي النص الرصانة في أحيان كثيرة.
. وتأتي المفاجئة " عند هبوطي الشديد السرعة، اخترقتُ حاجزاً، لم أميزه! وعند خروجي من الجهة المقابلة للمخترَق، لوثني سائلُهُ الأحمر.. ثمَّ هوى على الأرضِ محدثاً ارتطامه صوتاً؛ جعلَ القومُ يهرولون نحوي بل نحوه لصياحِ امرأة كانت تقف بجنبِهِ: "ابني.. ابني"!. وهكذا انتهى العرس بكارثة حولت الفرح إلى حزن والضحكة إلى بكاء. "لقد اخترقتُ رأسَ طفلٍ، وقضيتُ عليهِ في الحال.". والإختراق هنا كشف لما كان مرمي في كيس لدائني.. تنتظر لحظات تحررها وانطلاقها للنجوم غير دارية أنها ستنشر الحزن بدل الفرح. أجل صنعت للقتل ولكنها بلا ذنب. الذنب واللوم على ذلك الإنسان الذي يستعلمها بجهل واستخفاف لم يمارسه الجاهلون فقط بل حتى المتعلمون في أحيان كثيرة..
وجميل أن نشعر بهكذا اقتدار من كاتبة قصة لها هذا الصبر في عدم الكشف عن القفلة النهائية حتى في نهاية السرد، وهذا يعني أنها مصرة على إشراك المتلقي وجعله يعيش بين مفاصله ضمن حبكة تبدو سلسة بانسيابيتها لكنها قد تحتاج لتأنٍ ودراية لكشف ما يخبؤه النص.
ومن خلال السرد لاحظنا الربط في البعد الزمكاني، حيث مكان الفرح في المدينة أو القرية ضمن تسلسل زمني متصل بالماضي والحاضر أحداثه بين ضعف وقوة ولم نعلم بالمدى الذي ستمتد اليه هذه العادة نحو المستقبل. وألقصة إدانة وصعقة لنا بضرورة التعقل في تصرفاتنا في مجتمعنا الإنساني الذي نحن جزء منه.
ألباحثة والقاصة زينب فخري.. دمت مبدعة أبدا.
علي البدر
قاص وناقد أدبي وتشكيلي
٢. القصة
أيقونة القتل
زينب فخري
كنتُ مرميةً في كيسٍ لدائني، أوشكتُ على الجنون من الانتظار، أترقبُ بلهفةٍ مجيء الرجل صاحب الكيس أملاً في أن يلتقطني ويحررني!
لكنه في كلِّ مرَّة يأتي إلينا؛ يمد يده، ويفردُ أصابعه ويغرفُ مجموعة منا، لكن ليس أنا.. أنا ما زالتُ منزوية في آخرهِ!
الضجرُ كادَ يلتهمني، أتوقُ لأداء مهمتي في هذا الكون، أنا خلقتُ لوظيفة، متى اؤديها؟!
في إحدى المرَّات جاء وألتقط زميلاتي الأكبر عمراً مني عندما جاءَه رجالٌ من قبيلتِهِ.. يا لسعادتهن سيغدون سابحاتٍ في الفضاءِ!
قالتْ لي ذاتَ مرَّة زميلةٌ: إنَّها ابتيعتْ من السوقِ ورُمِيَتْ هنا بقربِي، لكنني كنتُ في صندوقٍ مظلمٍ، محكمِ القفل، أُخرجتُ منه واُحتفِظَ بي هنا! كلُّ ما أرغبه أن أُمنح فرصة تخلد ذكراي، وتلهج باسمي ألسن البشر.. لكن متى؟!
وفي يومٍ طالَ انتظاره سمعتُ صوت ضوضاء وجلبة خارجاً، طفقَ قلبي بالخفقان، فتلك بشارةٍ بخروجٍ مجموعة منا، وبالفعل جاءَ صاحبُنا، وفتحَ الكيس.. وسمعتُه يقولُ: "هذه لا تكفي، فالعريس عزيزنا، نريدُ المزيدَ من هذهِ"!
وحملَنا كُلّنا.. رَددتُ في سرِّي: "يالله.. حانَ وقت العمل.. لن أفشلَ"، رفعني بأصابعِهِ وأخرجني من سجنِي اللدائني!
لطالما مكثتُ أحلم بهذهِ اللحظةِ.. شعرتُ بالحياةِ تدبُ في أوصالِي، وشرعتْ الأحاسيسُ الجميلةُ تداعبُ كياني الصغير، بقربِ التحليق في السماءِ!
غمرتني مشاعرُ الاندفاع، ألهبتني الحماسة، وازدادت ثقتي بقدرتِي على شقِّ ممرات الهواء وخرقه بلا تعثر، سأقومُ بما عُهد إليّ في هذا الكونِ.
وضعني الرجلُ في البدء بمخزنٍ طويلٍ ومظلمٍ مع زميلاتي كنتُ في الوسطِ تقريباً، اجتاحتني سعادة مهولةٍ استفردت بكياني دون رفيقاتي وكأنني اشاركُ الحشودَ فرحهم!
وبعد سحبٍ ودفعٍ، ضُغطَ على نتوءٍ في مقبضٍ حديدي، أُطلقتْ زميلاتي، ثمَّ جاءَ دوري؛ تنفّست الصعداء.. دُفعِتُ بقوَّة..
نعم.. غادرتُ محلقةً عالياً باندفاع قلَّ نظيره..
كانَ المكانُ يضجُ بأهلِ العريسِ وصحبِهِ.. والأفقُ يضجُ بنا مدفوعين بشدَّة على نحوٍ متتالٍ باتجاه الأعلى.. نشقُ عنان السماء.. نكادُ نلامسُ النجومَ!
لكن كان تحليقنا لمدى معين ثمَّ بدأنا بالهبوطِ بلمحِ البصرِ.. الناسُ تحتنا على الأرضِ لم يكونوا يأبهون بنا بل كانوا يحدقون بصاحبِنا، ويرسلون نظرهم إلى يدهِ المرفوعةِ المستمرة بالضغط على النتوءِ؛ لرمي المزيد من رفيقاتي، بين متحمسين ومستاءين لفعلِهِ!
بعد لحظاتٍ سقطتْ أجسادُ زميلاتي اللاهبة على الأرضِ بين أقدام المحتفلين..
لكن أنا.. عند هبوطي الشديد السرعة اخترقتُ حاجزاً، لم أميزه! وعند خروجي من الجهة المقابلة للمخترَق، لوثني سائلُهُ الأحمر..
ثمَّ هوى على الأرضِ محدثاً ارتطامه صوتاً؛ جعلَ القومُ يهرولون نحوي بل نحوه لصياحِ امرأة كانت تقف بجنبِهِ: "ابني.. ابني"!
لقد اخترقتُ رأسَ طفلٍ، وقضيتُ عليهِ في الحال!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق