الطبيعة منسجمة مع الوضع الصحي الاستثنائي الذي تعرفه مدينتي. و المطر لم يتوقف طيلة اليوم، والضباب يغطي السماء، وأنباء تتحدث عن فياضات وسيول في بعض المناطق بإقليم شفشاون ..
أجريت اتصالات هاتفية مع العائلة، اتصلت بأختي زكية هاتفيا وأنهيت المكالمة سريعا، أما أختي أمينة لم أتصل بها منذ مدة، ورغم ذلك أحس وكأنني على اتصال دائم بها وبالصغيرين أيمن وندى وبزوجها محسن .
اليوم الخامس من الحجر الصحي، ولا شيء تغير كما كنت أعتقد ...وحيثما وليت وجهي لا أجد إلا الحديث عن وباء كورونا.
تذكرت الصباح الذي توجهت فيه إلى المستشفى الإقليمي قبل سبع سنوات ونيف، لمراقبة الحمل وأنا في شهري التاسع ..بطني منتفخة تكاد تنفجر ، أجر رجلي بصعوبة فيما يشبه المشي، والفحص كان قد أظهر أنني حامل بأنثى، أنثى بعد أربعة ذكور.
طلبت مني الممرضة الاستلقاء فوق سرير الفحص وحقنتني بإبرة لتكثيف الآلام وتسريع عملية الولادة. بعد هنيهة بدأت الدماء تسيل بغزارة كبيرة وتتساقط على الأرض. سمعت صراخ الممرضة وهي تطلب الطبيب على وجه السرعة، نقلوني إلى غرفة العمليات، تلقيت حقنة للتخدير في أسفل ظهري ثم استعجلت الممرضة الطبيب.
انحنت على أذني وأخبرتني بتعاطف كبير أن الطبيب المغربي غير موجود، والذي يقوم بالمداومة بدله الآن هو الطبيب الصيني ..ابتسمت ابتسامة عريضة ... فرفعت الممرضة حاجبيها وعقفت شفتيها وهزت كتفيها باستغراب، ولم أنبس بكلمة واحدة.
أحكموا وثاقي إلى السرير ثم وضعوا إزارا يحجب عني الرؤية حتى لا أتابع ما يجري ..
دخل الطبيب قاعة العمليات وهو يصرخ ويشتم ويسب ويركل الهواء برجله ويحتج على كثرة العمليات التي قام بها في ذلك اليوم...
حمل المقص وبدأ يحوم حولي ويلعب به في الهواء، يدفع به إلى الأعلى ثم ينقض عليه وهكذا ... حافظت على ابتسامتي العريضة حتى أخفي الرعب الشديد الذي أشعر به وما يختلج في دواخلي من عواصف.
التخدير بدأ يفتر في جسدي والممرض المساعد للطبيب، والممرضة التي تقف بجانبي يتبادلان النظرات وعلامات الخوف والقلق والاستهجان بادية عليهما ...وأنا أستمر في رسم الابتسامة على شفتي وأحاول تركيز نظري على عمود ضوئي مثبت في سقف غرفة العمليات ...صاح الطبيب بهستيرية و بأعلى صوته ثلاث مرات ثم شرع في العمل وكأنه يشق بطن سمكة التونة الكبيرة، بعد برهة وجيزة أخرج من بطني المولودة ثم سلمها للممرضة، وأخذ إبرة وخيطا وبدأ يخيط ما شقه منذ قليل ، المخدر كان قد اختفى تماما وأنا أحس بكل غرزة وأحاول الابتسام والتركيز في نقطة واحدة إلى الأعلى.
ترى كم من البشر فوق الأرض يتقاسم معي الآن هذه اللحظة وهذه الآلام المبرحة ؟ تذكرت مخافر التعذيب بالسجون، سجن أبو غريب وغوانتانامو وتازمامرت .....
العرق يتصبب فوق جبيني بغزارة والألم يزداد بعدما تلاشى المخدر تماما من جسدي ...
ولم تكد تنتهي عملية الخياطة حتى فقدت الوعي ولم أسيقظ إلا وأنا خارج قاعة العمليات أنام فوق سرير بالغرفة المخصصة للنساء لما بعد الولادة.
لم يسبق لي أن ولدت بعملية قيصرية من قبل، ولم أظن يوما أنني سأختبر ما كابدته هذا اليوم.
لبثت ممدة في السرير ثلاثة أيام متتالية وأنا ضعيفة القوى، شاحبة الوجه، مستسلمة مستكينة.
الوقت صيفا والغرفة مكتظة بنسوة من القرى المجاورة ومن مدينة وزان، والحرارة مرتفعة وروائح العرق تزكم الأنوف.
في آخر ليلة لي في المستشفى، وبعدما انهارت قدرتي على تحمل تلك الأجواء، انتقلت إلى غرفة منفردة. في تلك الليلة سيطر علي إحساس بالخيانة ...خيانة للنسوة التي تقاسمت معهن الأهوال في الغرفة المكتظة وفي فصل غشت وحرارته المحرقة و جحافل البعوض المستعدة للانقضاض في أي لحظة.
تلك الليلة أدركت أنني أنتمي إلى الطبقة الكادحة، ولا يمكنني بأي حال من الأحوال أن أعيش وأنا راضية مطمئنة إلا عندما أحصل على حصتي كاملة من الأحزان والمآسي .
ابتداء من الساعة السادسة مساء انطلقت أبواق وصافرات سيارات الشرطة وهي تعمل على تمشيط الشوارع بالمدينة.
العشية تمر سريعة، أكاد لا أنتبه إليها، حتى يسدل الليل ستاره معلنا نهاية اليوم بمدينتي بخلوها من فيروس كورونا اللعين، وقدوم بعض الأطر الصحية العسكرية للدعم والمساعدة.
شفشاون 24 مارس 2020.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق