** استوقفتني فى هذا الصباح الباكر من شهر نوفمبر أمام منزلها ، تجاوزت العقد الرابع من عمرها بقليل ، على وجهها بقايا حسن يتواري خلف تجاعيد الزمن ، لمحت في عينيها ترددا ولما أمعنت النظر فيهما بدت ظلال ماض قديم تفصح عن نفسها .
سألتني مترددة :
• أأ نت كمال ؟
وحين أجبتها " بنعم " تشجعت قليلا وسألتني ثانية:
• أتعرفني ؟؟
هذه المرة أجبتها " بلا " ، ربما صدمت من إجابتي وربما كانت تتوقعها .
تحول وجهها الي قطعة رخام وهى تقول :
• أتذكر فتاة اسمها " هـــدي " ؟ إنها " أنا " !!!
تبلدت مشاعري، واعترتني رغبات متناقضة، أتمني أن اتركها واذهب، وأتمنى في نفس الوقت أن اسمعها للنهاية، انتزعت مني – وأنا في غيبوبة الدهشة – وعدا بزيارتها بعد الثامنة مساء.
مضيت في طريقي وأنا استرجع ماضيا ضاربا في القدم، والملم شتات أحداث مضى عليها الكثير من السنين .
كانت " هـــدى " تقطن مع أسرتها قريبا منا ، فى نفس الشارع " جوهر القائد " علي مقربة من الأزهـــر الشريف ، نشأت بينها وبين أخي الأكبر علاقة حميمة ، أصبحت فيما بعد حبــا جارفا ، وبعد التحــاق أخي بالجيش تحول كل ذلك الى جنـــون !! وبدأ ساعي البريد يحمل – من جبهة القتال – فى كل مرة خطابين احدهما للاطمئنان علينا والآخر شوقا وهياما للحبيبة ، ولان ساعي البريد فى عجالة – دائما – من أمره فقد ألقى يوما بالخطابين إلينا ، وكانت الكارثة .
فى بادئ الأمر عاتبت والدتي والدتها ، ثم تحول العتاب الي قضية كبرى تداولها الجيران وراء الأبواب المغلقة ، وعندما ضاقت الأبواب بالقضية طرحتها للتداول علي ارض الشارع ، وبدأت المشاحنات ، وأطلت المشاكل برأسها ، ولم تكن المشاكل تهدأ إلا إذا تواترت الأنباء السيئة من جبهة القتال على القناة ، عندها ينسى الجميع كل شيء ويبدءون فى الدعاء بالنجاة لأزواجهن وأبنائهن..... وأيضا أحبائهن !! وأصبحت المشكلات اليومية ترمومترا على النقيض للأحداث علي الجبهة ، تشتعل الجبهة فتهدأ المشاكل والعكس صحيح .
في الموعد المحدد ذهبت للقاء السيدة " هــدى " .
• بعد ترككم لشارع " القائد جوهر" وذهابكم للإقامة " بباب الشعرية " أرغمني أهلي على الزواج من احد أقاربنا لانتقل معه من القاهرة إلى ( بنها ) حيث إقامته ، بعد خمس سنوات طلقت منه لأنني لم أنجب ، فعدت من جديد إلى القاهرة وشارع جوهر ، وأخذت أتلمس أخباركم وعرفت من إحدى الصديقات إن أخاك قد تزوج من شهور قليلة ، فمات كل أمل عندي وانكفأت علي أحزانى .
قطعت عليها حديث الذكريات المتدفق كالسيل لأنبهها أن تضع ملعقة سكر واحدة فقط فى كوب الشاي خاصتي .
وهي تمد يدها بالكوب نحوى سألتها:
• الم يبتاع لكي أخي خاتما ذهبيا ذات يوم ؟
أطرقت قليلا وكأنها لا تريد الحديث في هذا الموضوع، ولكن أمام إلحاح نظراتي إليها لم تجد بدا من الحديث:
• شاهـدنا احدهم داخل أحد محال الصاغة وأنا امسك في يدي خاتما ذهبيا فكانت وشايته لأهلك وهو لا يعلم أن الخاتم كان ملكا لى واننى كنت ساعتها اعرضه للبيع لأعطى ثمنه لأخيك، حيث كان لا يملك في هذا اليوم جنيها واحدا في جيبه ولم أبح بهذا السر لأحد حتى لا اجرح كرامته .
قاطعتها ثانية مشيرا إلى كوب الشاي خاصتها .
• منعني الحياء والخوف من التفكير في زيارتكم أو زيارته ، ولكن حينما علمت بنبأ استشهاده نسيت حيائي وخوفي وكل شيء ، وهرولت مع المهرولين إلى المدافن ، هناك شاهدته وهو يوارى مثواه الأخير ، وحين رأيت والدتك عاد لي خوفي فعدت للبيت أبكى الحبيب والحب وقسوة الأيام .
أدركت من خلجات كلماتها أن شجاعتها أوشكت أن تخونها، فاعتذرت لها بان الوقت أصبح متأخرا ويجب أن انصرف.
عدت لمنزلي وقضيت الليل تتجاذبني أحداث هذا الماضي البعيد، ونفسي تحدثني:
• لو لم نترك شارع جوهـر ؟ لو لم يستشهد أخي ؟ ترى .... ماذا كان سيحدث ؟؟؟!!!
تمـــت .
عبد الغنى عريف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق