هناك أعمال شعرية تبقى حاضرة في الذاكرة رغم مرور الزمن، وهذا يعود إلى الفكرة وجمالية الأسلوب واللغة التي قُدم بها العمل، غالبا ما ألجأ إلى قراءة كتاب "الحصار" لأدونيس وقصائد مختارة ل"يسينين" خاصة وقت اليأس، فأجدها تناسب حالتي النفسية، ما زال هذا المقاطع عالقا في ذاكرتي، رغم أن السوس نخرها وما زال ينخرها: "مُزق التاريخ في حنجرتي، ما أمر اللغة الآن وما أضيق باب الأبجدية" ومقطع ل"يسينين": "خبت قواي... ولم أعد امتلك جرأتي تلك .. يوما ما كنت أجندل خمسة رجال بضربة واحدة" هذا المقطع كتبه الشاعر وهو في سن السابعة عشر، بمعنى أنه شعر بالهرم والعجز هو في بداية شبابه، وهذا يعكس حالة الاغتراب واليأس التي يمر بها الإنسان عندما تضيق عليه الدنيا، فلا يجد من يفضي له بألمه وحزنه.
في هذه المختارات التي ترجمها الشاعر العراقي "حسب الشيخ جعفر" والصادرة عن وزارة الثقافة العراقية، سلسة الكتب المترجمة عام 1980، تعتبر ملاذي ومخلصتي من الواقع البائس، فالشاعر يقدم قصائد مثقلة باليأس، يقول في قصيدة "أغنية قاطع الطريق الهرم":
"خبت قوتي
وذوى لون وجهي،
ولم أعد أمتلك جرأتي تلك
وكأنني ما كنت قويا في يوم من الأيام.
+
يوما ما كنت أجندل خمسة رجال
بضربة واحدة من هراوتي،
وها أنا عجوز واهن
أندب مصيري.
+
طالما ترددت أغنياتي
من الصبح إلى ساعة متأخرة من الليل
وها هو الغم يمتصني
والحزن ينخر فؤادي
+
يوما ما كنت قويا مقداما
اقطع الطريق على المسافرين،
وها قد أمسيت عجوزا واهنا
فوداعا يا جرأتي تلك"ص20و21.
هذه القصيدة كتبت عام 1912، وإذا علمنا أن الشاعر من مواليد عام 1895، نصل إلى حجم اليأس والاغتراب الذي يعانياه وهو ما زال في بداية حياته، فكيف سيكون عليه لحال عندما يصبح شابا!؟
نلاحظ أن هناك مجموعة ألفاظ تشير إلى حالة العجز/اليأس/التسليم بالواقع البائس: "خبث، ذوى، لم أعد، ما كنت، عجوز (مكرر)، واهن (مكرر)، أندب، الغم، يمتصني، الحزن، ينخر، فوداعا" فالشاعر من خلال وصف حالته النفسية وما يشعر به أوصل فكرة الاغتراب/الحزن/اليأس التي يمر بها، فبدا عاجزا/هرما/ لا يقدر على فعل أي شيء، وعندما ختم القصيدة "فوداعا" كأن يمهد لمغادرته الحياة بإرادته، فمن خلال إبداء مشاعره وهو في بداية حياته أوصل لنا عبثية الحياة، وعدم رغبته بالبقاء فيها، فكانت مغادرته لها متوقعة، من هنا عندما كتب بدمه:
"وداعا، وداعا
يا صديقي، أنت في القلب مني،
إن افتراقنا المحدد هذا
ليعيدنا بقاء فيما بعد
+
وداعا، صديقي، دون مصافحة، دون كلمات،
لا تحزن، ولا تقطب حاجبا،
ليس جديدا أن نموت في عالمنا هذا
وليس أكثر جدة، بالطبع، أن نعيش" ص26.
كان قد مهد لهذه النهاية، إذن بدايات قصائد الشاعر وآخر قصيدة كتبها كانت تعبر عن مشاعره تجاه الحياة، فوجدها لا تستحق الاهتمام، وكان مغارته لها يمثل انسجامه مع واقعه ومشاعره تجاه الحياة، فقد أكد أنه يمارس حياته كما يريد هو، لا كما يريده الناس.
بدايات الشاعر ونهايته متماثلة، فكيف كانت حياته؟ وكيف قدمها في قصائده؟
"لم أكن مثقلا بمثل هذا التعب من قبل،
في هذا الطقس الثلجي الراشح
أجدني حالما بسماء ريازان
وبطيشي القديم
+
هذه الليالي المخمورة بلا انتهاء
والكآبة بعد السكر الغامر.. ليست جديدة
+
لم تعد الخيانة موجعة من أية جهة تجيء،
وسهولة النصر لا تبعث أي سرور في نفسي
إن لون شعري.. لون القمح الذهبي
أراه يتحول إلى لون الرماد
يتحول إلى رماد وماء
حيث ترشح الثمالة الخريفية،
ما أنا بآسف عليك أيتها السنوات المنصرمة
ولست راغبا باستعادة شيء،
+
أنهكني أن أعذب نفسي دونما هدف
+
يخبوا فيّ الحماس المستعر" ص88-90، 1923.
حالة اليأس ما زالت مهيمنة على الشاعر، فهو فاقد للرغبة في الحياة، ولا يتحسر على سنوات عمره الماضية، ولا الخيانة تهزه ولا حتى الانتصارات التي لم تعد ذات قيمة بالنسبة له، ونجده غارق في الألم والحزن، من هنا، شخص يعيش هكذا حياة، لماذا يعيشها!؟، أليس مغادراها طواعية أفضل من البقاء فيها!؟
الطبيعة أحدى عناصر الفرح التي يلجأ إليها الشاعر وقت الشدة، لكن "يسينين" لا يجدها إلا قاتمة وسوداء:
"القمر، في الأكثر،
قد التهمته الكلاب.
فمنذ زمن بعيد
لم يبد له أثر في السماء" ص119.
نلاحظ وجود لفظ "الكلاب" رغم أن الحديث بدأ عن القمر، وهذا يعكس حالة اليأس التي يعانيها، واللافت في هذا المقطع أن حالة اليأس لا تكمن في الفكرة فحسب، بل في الألفاظ أيضا، فنجده يستخدم ألفاظا قصيرة يكثر فيها الحروف: "في، لم، له" فمن خلال قلة/صغر الكلام/الكلمات نصل إلى قنوته من الحياة وعدم رغبته حتى في الحديث عنها.
ما قاله في السابق متعلق بنظرته للحياة بصورة عامة، لكن هناك تفاصيل متعلقة بالمجتمع، بالناس، يحدثنا عن هذا الجانب بقوله:
"أنحدر إلى عنبر السفينة
كيلا أرى قيء الآخرين
وكان عنبري
هو الحانة الروسية
فأنحيت بوجهي على كأسي
لأهلك نفسي
في سورة السكر
غير متألم على أحد
+
في عالمنا الذي خربته العاصفة
كنت أتعذب لأنني لا أدري
إلى أية جهة تسوقنا الأقدار" ص110و111.
نلاحظ أن الشاعر يعتزل الناس، ولا يريد أن يتصل بأحد، وقد عبر عن سخطه منهم واشمئزازه من خلال "قيء الآخرين" فكيف له أن يكون بين هؤلاء!؟
ونلاحظ أنه يتعاطى الخمر ليسكر/ليهرب منهم ومن واقعهم، بمعنى أنه يُقدِم على فعل من المفترض أن يمنحه اللذة، لكنه يعتاطاه ليتخلص من بؤسه، وهذا تكمن المفارقة، فحتى العمل المُفرح أمسى عملا مسكن للألم، وهذا يجعل حياته بمجملها مجرد عذاب وصراع وهروب من الألم، فجاءت قصائده تمهد وتهيء القارئ لنهايته كإنسان بشري وليس كشاعر.
ذروة اليأس نجدها في هذا المقطع الذي كتبه عام 1924، قبل مغادرته الحياة بعام واحد فقط:
"أرى نفسي
ميتا، ممدا في تابوت
ومن فوقي يئن أحد القساوسة:
هلليلويا
+
هاكم رجلا غريب الأطوار!
لم تكن عربدته قليلة في حياته
لكنه لم يقو على قراءة
خمس صفحات
من رأس المال" ص122و123، نلاحظ حضور الموت، وعدم قدرته على التكيف مع الثورة والعهد الجديد الذي يفرض على الأفراد قراءة رأس المال، فعدم القدرة ينم على عدم انسجامه مع ما هو سائد من أفكار وسلوك، وبما أنه سبق وتحدث عن الموت فجاء حديثه عن رأس المال كشرح/كتعليل للموت المعنوي، والموت الفعلي لاحقا.
ومن القصائد التي تناول فيها الموت ما كتبه عام 1925:
"غير أني، وقد أيقظني أنين الأقبية الرهيبة،
أود لو أكتب على شاهد قبري:
هنا يرقد شاعر أحب وطنه
كما يحب الحانة السكير" ص145، اللافت في هذا المقطع أن الشاعر أقرن حب الوطن بحب الحانة، وهذه إشارة إلى معاناته من الحياة وما فيها، فالانتهاء منها يعد مكسبا، وهذا ما فعله "يسينين"، عندما قرر أن يغادرها طواعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق