الى الشاعرالراحل عبد الزهرة خالد الذي رحل بجسده وأصرَّ على المقام في الوجدان بروحه وأثره الابداعي ، اعيد نشر دراستي هذه :
{ نصية العنوان الموازية دلالياً للنص }
النص :
تماثلت بيوتُ الصفيحِ للبنيان
واعتلت على السياجِ العتبةُ ،
برزت القببُ ظاهرةً للعيانِ
بأحداقِ الغرباءِ كلّما أقبل عليها هذيانُ المخيلة ،
من المطابخِ تنبعثُ روائحُ النذور
بينما الراهبُ يسرقُ جلودَ القرابين ،
ياصوتي العاري من صدى النداء
لا تنهر عزيمةَ التبرير وقت الاعتذار
لقد سقطَ مفتاحُ العودةِ في بئرِ الرجاء ....
<•>
أيتها الماكثةُ في أحلامي ،
ما عادت الجدرانُ
تتحملُ رقصةَ البندول
ولا لوحةُ الأوقاتِ
تزيّن لحظةَ الانتظار ،
تهاوت الصورُ من الأذهانِ
من كثرةِ السؤال ،
كافورٌ يطعنُ المحنّط بأسطرِ الجواب ،
بينما الكفنُ يغني للمسجى لحنَ الخلودِ
على دكةِ القنوط ....
<•>
أيتها العابرة على وهني
لو كنتُ معلقا كقناعٍ
على ثغركِ
لطالَ عمري
وانتشلتني أنفاسكِ من جورِ المرحلة ..
<•>
الدراسة :
توطئة : التوازي الدلالي هو احد انواع التوازي في الابداع الشعري، ومفهومه بشكل موجز :
هو التشابه / التماثل الكلي او الجزئي بين دلالات نصين مستقلين عن بعضهما / توازٍ خارجي ، او ان يكون النصين لذات الشاعر متعاقبين زمانياً / توازٍ داخلي ،ويتمظهر التماثل بينهما في ظاهر دلالاتهما ،او بين ظاهرها في احدهما ، ومسكوت عنها / مضمرة في الثاني ،وغيرها من التمظهرات .وتعد العتبة العنوانية من اهم النصوص الموازية للنص ، لما لبنيته اللغوية من تعالق دلالي او تركيبي او كليهما ، مع بنية اللغة النصية ، حيث ان الوقوع على طبيعة هذا التعالق،بتحليل او تفكيك ظاهر دلالات اشاراته، يوفر "مفتاحاً" دلالياً لفهم اعماق النص وسبر اغوار مقاصده ، ومن العناوين ما يمثل نصاً كاملاً ، ويكون المتن نصاً موازياً له .
الدراسة :
---------
عنوان النص مشفَّر الدلالة ، كما يوحي ظاهر التنافر بين حقلي اشاريتيه الدلاليين ، فالاولى (الصوت) من حقل الاثار المحسوسة غير الملموسة مادياً،بينما الثانية (العاري) فمن حقل مشتقات الافعال المادية، فالعُري لغةً يعني التجرد عما / مما يكسو او يغطي جسماً او شيئاً ما
، مما يحملنا على تفكيك بنية الشيفرة العنوانية للوصول الى مقاربة ماترمي اليه من معنى ، و الوقوف على سر تعالق اشارتيها العابر للحقول الدلالية.
ـ بنية جملة العنوان النحوية مزاحة تركيبياً بحذف خبرها ، بقصد تركيز الانتباه على دلالة المبتدأ (الصوت) المتصف بالعري
ـ الصوت : مقامي ، السياق العلمي / الفيزياء : هو اثر حسي ( يدرك بحاسة السمع ) ينتج عن تردد آلي ، ينتقل مَوجياً في وسط مادي (الهواء ، الأجسام الصلبة ، الخ ) ، ولا ينتشر في الفراغ .وادراكه سمعيا يقتضي ملامسته حاجزاً (طبلة الاذن بالنسبه للانسان) او اصطدامه به ( اشياء مادية مرتفعه حيث ينتج الصدى).
وعدم تخصيص هذه الاشارة في العبارة العنوانية ( فالصوت يصدر من وعن كل الموجودات الحية و غير الحية ) ، يجعلنا نحيلها داخلياً (الى متن النص ) ، لنجد ان الشاعر قد أنسنه بمضايفته مع الضمير العائد عليه / ياء المتكلم ، في قوله (( يا صوتي العاري )) ، ولنفكك هذه الاشارة
ـ العاري : اشارة ساكتة عن ضديدها / المكسو ، الذي يسبقها في التحقق ، فلا يتعرى الا من/ ما كان مكسواً سلفاً ، فبمَ كان ذاك الصوت مكسواً ؟ ، واذا كان جميع البشر يصدرون صوتاً ، فماهي مزية هذه الكسوة التي خصّت الشاعر بهذا الصوت ، وجعلته دالاً عليه وحده دون غيره ؟
عطفا على الاحالة المقامية / تاريخ اللغات : الصوت البشري من اقدم اشارات التواصل الجمعي بين البشر في سحيق تاريخهم ، اي انه من الاشكال الاولى للغة الانسان البدائي ، وكان صوتاً مجرداً (عارياً )، تماشياً وانعكاساً لعري عقله من الوعي بالاشياء ، حتى اذا تطورت بنيته العقلية عبر العصور تطورت تلك الالية التواصلية فيما بينه والاخرين ، باختراعه اللغة حرفاً مكتوباً وملفوظاً ، فغطى الصوت عريه بكساء اللغة ، وفق هذه المعادلة :
اللغة المنطوقة = صوت + اشارات دلالية ( مفردات لها معنى)
ولما كان كاتب نص شاعراً، فهذا يعني ان له لغته الخاصة التي تميزه عن غيره.
لكن ما الذي دفع الشاعر الى تعرية صوته من كسائه اللغوي ؟
بالعودة الى (تواصلية اللغة ) ، نجد ان هذه التواصلية تشتغل جمعياً وفق المقاربة :
التواصلية = متواصِل ( مرسل الخطاب اللغوي) + متواصَل معهم ( مرسل اليهم الخطاب) + بيئة تفاعلية ( مجال اجتماعي)
وتفقد اللغة سبب وجودها حين تكسر هذه القاعدة بعزوف (المتواصَل معهم ) عن التفاعل مع المتواصِل .
ولايمكن ان يكون هناك عزوف جمعي اختياراً ، فلكل شاعر مريدوه وجمهوره لاينفكون متفاعلين معه في سائر خطاباته ، لذا فهكذا عزوف لابد ان يكون اضطراراً واستجابة لقوة آمرة قاهرة تهيمن على البيئة التفاعلية (المجتمع ) ويكون امرها نافذاً لارادَّ له ، وهذا دأب (السلطة الشمولية ) التي لمست في لغة الشاعر(المتواصِل) ما فيه فضح لجورها ، وتنبيه المقهورين (المتواصل معهم ) من غفلتهم واثارة غضبهم ضدها ، فأمرت المتواصلين معه بالعزوف عنه ، فاذعنوا لارادتها ، مما احبط الشاعر ، فاعلن قطيعته اياهم ، بتعريته صوته من لغته التي اشعره عزوفهم عن خطابها ، وكأن اشاراتها اضاعت معانيها في طريقها الى مداركهم ، وبمعاودة الاحالة على متن النص نجد بشاعة ايغال القاهر في تضييق حدود عزلة الشاعر عليه ، فقد صادر حتى صدى صوته المنادي (( ياصوتي العاري من صدى النداء)) مخافة تنبيهه الغافلين :
ـ الاشارة (النداء) تعني اصطلاحاً : عملية التنبيه و طلب الإقبال ،
بذا تكون دلالة (الصوت العاري) مزاحة عن (صرخة الاحتجاج ).
وهي الصرخة / الموقف ، الرافضة لقهرية السلطة الشمولية ، واستسلام المقهورين لمشيئتها
يخلص اشتغالنا التفكيكي الى ان العنوان اتسم بخصائص نصية تجعله في موازة النص دلالةً .، وهذا ما سيقف عليه المتلقي المتمكن من ادواته القرائية عند تعاطيه وتفاعله مع متن النص .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق