لعل أبرز ما في قصيدة الشاعر أ. احمد الخليلي الصوفية الوجدانية ، هذه المراجعة الذاتية والشعور بالذنب الذي جعل بطل النص يناجي وهجا نورانيا يبثه كل هواجسه ومخاوفه ليصل إلى حالة من الزهد الصوفي في دلالات عميقة وفي تكثيف لصور شعرية مجازية غنية وخصبة بالخيال .
في النص لن نكون مضطرين إلى التفسيرات اللفظية وإنما إلى تأويلات في المعنى، فالصوفية بكل أبعادها إنما هدفها في الوصول إلى المعنى وفي الولوج إلى الصميم.
يعتبر النفري أن كل العلوم هي بمثابة حجب، لذا برأيي فإن الصوفية ما هي إلا ذلك المنفذ الذي يوصلنا إلى الحقائق كيف لا وكل دروبها نورانية؟
النزوح عنوان النص وعتبته. النزوح بمعناه التفسيري اللفظي هو الانتقال من مكان إلى آخر، أما النزوح بمعناه الصوفي فهو الانتقال من الخارج إلى الداخل.
الثيمة التي ركز حولها الشاعر في قصيدته هي يوم القيامة .
في مناجاة الشاعر للوهج نتساءل من أين منبع الوهج؟ وماذا يمثل ؟ نجد أن في طلبه للوهج والتماسه له بأن يرجو له الله عفوا، فإذن مصدر هذا الوهج هو نور التقوى والورع من الله.
الشاعر يسأل هذا الوهج هل شاء ضعفي زلتي؟ وكأنما هو اعتراف من الشاعر بأن الضعف تجاه مغريات الحياة شاء أن يزله ويوقعه في المحظور، وندرك أن تساؤله هذا لم يأت عن عبث بل عن إدراك لسبب شعوره بالوحشة والضيق .
يقول:
(يا أيُها الوهجُ الذى أضنى
دمي
هل شاء ضعفي زلتي؟
هلاَّ رجوت الله لي عفواً
يُسامرُ وحشتي ؟ )
يستمر في مناجاة الوهج متسائلا عن لاجدوى البكاء ليكون الجواب مصاحبا للسؤال، الشاعر يلجأ إلى طرح السؤال،
تحديد السؤال بإلى متى، الزمان موجود وواضح مع عدم ظهور للمكان، إلى أن يظهر بعبارة ( أرض الغواية ) هنا تضخيم للمكان باستخدام عبارة الأرض وليس باستخدام مكان بسيط، ويعتبر أنها أرض الغواية فحتى هو العفيف أغرته تلك الأرض. النجاة هي في الخلاص فيتساءل الشاعر هل البكاء وسيلة لتنقية الروح مما علق بها من ذنوب لكنه يستدرك بأن البكاء ما عاد وسيلة للنجاة ويعطي امثلة حول ذلك يقول:
إلى متى البُكاءُ وما عاد
البكاء وسيلة للنجاة
فما رأف البكاء بجائعِِ
وما قرَّت بطول الليالى
عينُ المُسهَّدِ
يقول إلى متى المتى يا شقائي ؟
هنا يتحول بمناجاته من الوهج إلى الشقاء ذلك الشقاء الدائم الذي لا يبرح حياته
( متى ) اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب ظرف زمان
بعد تساؤله الذي يرى فيه اعتراضا على مشيئة إلهية قدرية يعود مستغفرا الله من ذلّه الذي يشكو منه ومن ظله وهو رمز دلالي على كيانه الباهت على الأرض التي أضاف عليها كلمة الغواية تلك الأرض التي ستشهد كل مراحل حياته تبدأ بشذا طفولة عبق ثم شباب وكهولة فمن وهن إلى كفن حتى تسدل الرواية بالموت الحتمي للجميع، ليلتقي الجميع في هلع معا يقول:
"إلى متى المتى يا شقائي؟!
أستغفرُ الله العظيم من ذَّلي
ومن ظِلّي على أرض
الغواية
من نقيضين اثنين نسمة
من أريج يعقبها الوهن
ثم الكفن فتُسدل أستار
الرواية
ويقف الجميع فى هلع
ويأتي الذين لم نُصدّق أنهم
كانوا ...... وكُنَّا نُرَتّبهم في
ذيل قائمة السلع"
يعود فيصف ما تراه عيناه يوم الحساب حتى أنه يرى أمه ووالده يرى والده بمرتبة عليا يرى يوم القيامة الجنة مقسمة إلى عقارات وكل كائن سيكون في مكان يناسب ما قدم في الدنيا من أعمال حتى أنه رأى والدته ورأى والده الذي يبدو أن عليه مسؤولية في الآخرة ربما لما يحمله الشاعر في لاوعيه عن مسؤوليات الأب التي لن تفارقه حتى وهو في الجنة، ربما يعني ذلك أن المسؤولية هي جزء من النعيم والسرور بالنسبة إلى الوالد الذي يعرف قيمة دوره.
يقول:
كنت أُشاهد فالعقار كان إلى العقار
وعلى جانبِِ آخر
كانت تشرب الشربات أُمّي
وكان أبي يحمد للعسل المُصفّى رَبّاً
يُحب الطيبين ويمسحُ فى حُنوِِ فوق
شقائهم ويربتُ فوق مدامعهم
هذا كوثري لكم ووجهي"
وفي عقار آخر الشاعر الاموي جرير والشاعر المصري القومي العربي أمل دنقل يمسكان بيده هناك يجتمع الشعراء من مختلف الأزمنة ولا فرق بين الشعراء فكل من هو شاعر يجتمع بكبار الشعراء الكل هناك متساوون.
كذلك هناك عقار للمشايخ .
أما هو الشاعر الذي كان يظن أن فضائحه ستنشر ويذاع أمره ويشتهر، فوجد أن هناك الكل متساوٍ كبيرا كان من حاكم أو من شخص عادي مثله. يعود ليحمد الله الذي خيره فاختار الحمد. يقول:
"الحمد الحمد لمن خَيّرني فاخترت الحمد
اخترت الغمد لكل خناجر فرحة قلبى بالدنيا
فى قلبي"
اخيرا يصف النسوة معا وكأن هناك عقار خاص بالنساء يراهن بنفس الملابس القروية ربما تقديسا لزيهن المتواضع الذي يجله الشاعر فلا يميز لباسهن القروي عن لباسهن في يوم القيامة سوى عطر الحنين
يقول:
رغم أهوال القيامة يرتدين نفس
الزِىّ القروى القديم لكنّهْ بلونِِ مُغاير
وعَبق مُغاير وإيثارة من تُراب على
خُمُرهنَّ له رائحة الحنين
ورحيق اشتياقِِ تَعِب
أخيرا في يوم القيامة
وبعد كل ما ورد من أماكن هي عبارة عن عقارات وتحديد الزمان بيوم القيامة حيث الجميع سيكون في رحمة الخالق هناك الجميع سيتعانقون،
وهكذا يصل في ختام القصيدة إلى هدف سامٍ تسعى إليه الصوفية وهو أن الجميع متساوون لا تمييز بين فئات الناس من كبير أو صغير فهذه الصفات دنيوية وهناك تقديس للزاهدين من الناس وذلك من خلال لباس القرويين الذي بقي كما هو شكلا مع إضافة لشذا عطر كدلالة ترميزية على أن لباس البسطاء ليس مذموما وبذلك ألغى فكرة الطبقية وهي هاجس معظم الناس في الدنيا.
الشعراء إن كانوا ممن يمثلون الشعر التقليدي أم الحداثوي سيلتقون كما الرفاق فهم متساوون بعطائهم وبشغفهم بالشعر وليس بنوع الشعر الذي يكتبونه.
وهناك هدف آخر في القصيدة وهو أن الجميع يتعانق في حيّز رحمة الله حيث كانت آخر صورة شعرية يختتم بها الشاعر قصيدته، لتكون الحقيقة التي يسعى إليها الشاعر متجسدة في تلك المحبة بين البشر وبتلك الرحمة التي يغمرنا بها الله.
------------------------------
القصيدة بقلم الشاعر احمد الخليلي:
نزوح
(يا أيُها الوهَجُ الذى أضنى
دمي
هل شاء ضعفي ذلتي؟
هلاَّ رجوت الله لي عفواً
يُسامرُ وحشتي ؟ )
...........
إلى متى البُكاءُ وما عاد
البكاء وسيلة للنجاة
فما رأف البكاء بجائعِِ
وما قرَّت بطول الليالى
عينُ المُسهَّدِ
إلى متى خوفي على كهلين
يعتنقان الطفولة ؟
إلى متى المتى يا شقائي؟!
أستغفرُ الله العظيم من ذَّلي
ومن ظِلّي على أرض
الغواية
من نقيضين اثنين نسمة
من أريج يعقبها الوهن
ثم الكفن فتُسدل أستار
الرواية
ويقف الجميع فى هلع
ويأتي الذين لم نُصدّق أنهم
كانوا ...... وكُنَّا نُرَتّبهم في
ذيل قائمة السلع
لو زمجَرَت كل النفوس
أزعجنا تنفّسها
حيث لا وقت فى سكون تهيأت
فيه للعُراة صنوف الخلع
بهيّة طلعة الأنبياء
للشُهداء نشوة المطر
للفتيات اللاتي لم يُفضُّ لهنَّ ستار تَدانِِ
له وقار
كنت أُشاهد فالعقار كان إلى العقار
وعلى جانبِِ آخر
كانت تشرب الشربات أُمّي
وكان أبي يحمد للعسل المُصفّى رَبّاً
يُحب الطيبين ويمسحُ فى حُنوِِ فوق
شقائهم ويربتُ فوق مدامعهم
هذا كوثري لكم ووجهي
وعلى جانب آخر يأتي جرير وأمل مُمسكاً
بيدي وكُل من قرض شعر البداية والنهاية
عَلّقوا إلاّ الذين تحيّروا فتخيّروا فتغيّروا
قَدْرَ السبيبة ما بين النقيضين
وعلى جانب آخر
يجيء المشايخ مربوطين بحبل من حرير
مُستعر
يسيل من مسامهمُ الزيت والحِنطة
ومشايخ آخرون تَرنّموا كُنّا
نجوع وكان لنا القوارض
والشوارد سانحات
ومن جانبي كنتُ أظُن أنّ فضائحي
أكبر _ مانشت _ تعرِضه القيامة
وكنت سعيداً أنّي سأُشهرُ فى عرصاتها
وأنّ وسائل الإعلام ستنشر كل صحائفي
وقصائدى فوجدتُ أنّي بسيطٌ جداً
فى ملكوت الرحمة وأنّ _ المانشتات _
الكبرى أيضاً تُنشر للحُكّام وللمشاهير !
هل مات بسيطاً من عاش بسيطاً ؟
الحمد الحمد لمن خَيّرني فاخترت الحمد
اخترت الغمد لكل خناجر فرحة قلبى بالدنيا
فى قلبي
هاهى جدّتي وحريمات هُنَّ خالاتي وعمّاتي
وجارات فى الدرب الذى لا زلت أذكره
رغم أهوال القيامة يرتدين نفس
الزِىّ القروى القديم لكنّهْ بلونِِ مُغاير
وعَبق مُغاير وإيثارة من تُراب على
خُمُرهنَّ له رائحة الحنين
ورحيق اشتياقِِ تَعِب
حتى طوَّقهُنَّ الله بلمحِِ جلَّ جلال الله
فَسَكِرنَ وكل الفتيات بفَرْحِِ أجرَى دمع
المفضوضات بكارتهنّ بأعراس الدنيا
وتعانقنا فى حَيَّز رحمته
-----------------------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق