أمعنَ النَّظر في لَوحاتهِ البَهية, قرَّرَ أن يَختصِرها بِلوحةٍ واحدة, تَلاشَت أمامَه الأفكار, هَربت من عقلهِ كل الصور, حلق بعيداً في عوالم التيه, أراد أن يلملم أهداب ريشته المبلولة بالدموع, غمسها في غور قلبه المكتوم, أخرجها منقوعة بمشاعر ندية, وأخذَ يرسم وهو يتمتم في خلجاتهِ ما سُلِبَ من روحهِ....
كيف.. أين.. بمن .. متى .. ربما ..!؟ , ولم يشعر بِأطرافهِ الخَدِرَة التي نَمُلت, عدا أنامِله الرشيقة المتنقلة بمحطات الجمال, وترجمة الخيال... رسمَ جَسدها.... شعرها ...شفتيها.. عينيها التي أصابتهُ بالغرور.
لوحةٌ لم تكتمل بعد! محت كل لوحاته, وأسقطتها من جدار الوهم على أرض الواقع, وأردَت بها في بئر الندم, هرول لها مفزوعاً بمعولِ الأسى, حطم كل التماثيل الملونة.
أستغلَّ قرينهُ المتربص به, ذلك الانكسار المفاجئ, أخذ يصرخ بصخبٍ مزري :ـ
أضرب لتشفي غليلَ تلك السنين التي مضت دون انحسار.. اضرب وهدِّم جبل الصبر الذي جثا على صدري, اضرب علَّني أستريح.. اضرب .. اضرب ..
حينها.. ارتعشت قطراتُ النار على جبينه, أوقدت فيه حطب الحمق, أطفأت له شمس وقاره, سال منه لونٌ أحمرٌ قاتمٌ, اصطبغت به بقايا ألوان لوحاته الممزقة, استفاق على نزفِ دمائه وهي تملئ مكانَ حجرتهِ التي تعتريها الفوضى, تذكر حينها أنه وضع كل ألوانه في لوحةٍ حالمة, رجع أليها ملهوفاً ... مسرعاً .. حرصاً منه على إكمال رونقها الغائب, منادياً بأعلى وجدانه :ـ انتظري لا ترحلي لا تتركيني .. لم أكمل بسمتكِ بعد .. لم أكمل رسمكِ بعد .. لم أنثر ألوانكِ بعد ..
تذكر أنه تركها تحت السماء حيث سابقهُ المطر إليها, لاحظ قطراتَهُ تَلعَقُ ألوان لوحتهِ في العراء, مَسحت الغيوم له إشراق القمر وبهائه, ذهبت لوحته التي طالما حلَّقت بعوالمهِ, انقطع حبلها السري من أفق التألق الذي كان به يسمو, عندها ... لملم بقاياه وارتحل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق