تبدأ الرواية بومضة مضية flash point "وجهك ، أعادني بملامحه التي حُفرت في أعماق روحي ، إلى لثغة الحبّ الأوّل..."
وكأن الروائي منذز عبد الحر يقودنا أو بالأحرى يلزمنا بتتبع مفاصل الرواية ضمن استرجاعات flash backs نجد فيها أنفسنا وسطها بكل انسيابة ومهارة.
الروايه بالمجمل كتبت باسلوب تجلى فيه بوضوح اقتدار الروا ئي بالحفاظ على نفْس قوة الجذب في انتقالات متعددة عبر بعدٍ زمكاني ينقلنا لأجواء مختلفة سرعان ما نجد أنفسنا منسجمين معها. وبدت اللغة منسجمة رغم اختلاف الأماكن وثقافة الشخصيات ولا أدري هل أكون محقًا عندما اتساءل عن لفظ كلمة "كباشة" من قبل إبن الأهوار وهي في اللغة الدارجة "جباشة". وهي طبقات من البردي والطين تطفو وكأنها اليابسة. ولدينا أيضا "التهول" وهي أيضا طبقات من الطين والقصب لكنها قد تغدر أحيانًا. وعندما توغل أحد الرجال خلال قطعة منها، من ثقب فيها ليغوص تحتها ويمسك السمك لكنه بعد نصف ساعة ظهر طافيًا بلا حراك حيث حملوه بالقارب وقد صادفهم رجل تبدو هالة من الهيبة عليه. أرجعهم إلى نفس المكان لأن روحه بقت في مكان اختناقه وضغط عليه ونفخ في فمه حيث تقيأ الطين والماء ورجعت الحياة إليه. ويؤكد الكاتب زواجه لمرتين.
والتساؤل هنا بأن الكاتب لم يعلق عليها وأعتقد لكي تبدو أنها حقيقة حسب ما يعتقد به أهل الأهوار، في الوقت الي يؤكد فيه أن البقاء تحت الماء ممكن لدقيقة واحدة. وقد يكون تقمصه لما يدور من قصص في الأهوار هو الجواب لهذا التساؤل.
ورغم حذر الكاتب من ذكر البعد الزماني في بعض مفاصل الرواية، إلا أن إشارات ذكية وحذرة أحيانًا ساعدتنا في كشف المرحله مثل اعتقال البطل بسبب علاقته "بسهاد" وكانا مراقبين من قبل الإتحاد الوطني للطلبة،وهو تنظيم طلابي بعثي استخباراتي كما نعلم، إضافة إلى "أبو شوارب" حيث صدرت الأوامر للبعثيين بتربية شواربهم تقليدًا للشيوعيين في عهد ستالين وما بعده لفترة قصيرة.
لقد لاحظنا التعبير المتحضر المتزن عند وصف أدق مشاعر الحب وقد بدا طفوليًا في براءته حيث أن حبه الطفولي قد ترسخ في أعماقه وهو في الستين، ويبدو وصف حالة العناق والهيام مع زوجته غريبًا وقد تعدى المألوف عندما يصف الكتّاب في كتاباتهم مغامراتهم مع غريبات خارج نطاق الأسرة.
ورغم أنه لولب الرواية ومحركها لكنه لم يظهر بطلًا في الحوادث حيث انه وزع مراكز القوى والتأثير بصورة ذكية. بين أب وجد وشباب بدوا بلا هوية، نزولا إلى طفلة دارت مجمل التداعيات حولها. ينطق اسمها ويتحاور معها ويتذكرها في المواقف وهي غير موجودة، وهذا جزء من الإقتدار في الكتابه والسيطرة على انسيابية ثيمته theme.
وإن اختلفت الرواية عن القصة بتلك الحرية التي يتمتع فيها الروائي بالاسهاب في التفاصيل، ولكن وبرأيي المتواضع لابد من التركيز والتهذيب بالنسبة لما يمكن حذفه بدون التأثير على الرواية. وعليه لابد أن نعطي الروائي "منذر عبد الحر" الحق في جعل قصيدة الشاعر الإنكليزي "إيدموند جارلس بلوندن" التي جاءت ملائمة تقريبًا، لكن ماذا لو حذفنا قصيدة عنترة ابن شداد مثلًا؟ هل تؤثر على روعة الرواية؟ وبخصوص عتبة الرواية، لابد أن يكون هكذا غناء، سريًا خاصة من استاذ جامعي في الستين من عمره. تجارب لاتنسى تتراكم عليها الحوادث ويضعف تأثيرها وتغور في اللاشعور unconsciousness ولكنها تبقى مؤثرة حيث تتوهج، وقد تضحكنا أو تبكينا وفي كل الأمور لابد أن تبقى في الذاكرة كما يبقى ذلك الغناء السري في ذاكرتنا.
الروائي "منذر عبد الحر" لقد لاحظت إبداعًا لافتًا عندما كشفتَ لنا غناءك السري. نحن سعداء وأنت معنا. تحياتي إليك.
بغداد أيلول 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق