حينما نوقد مصابيح ذاكرتنا ، و نعود الى الوراء قليلا نجد للشواعر العراقيات حضورا واسعا في كتابة الشعر ، وليس ذلك فحسب و انما كان لبعضهنَّ دور الريادة في ايجاد اشكال شعرية حديثة فتعد ( نازك الملائكة ) اسما بارزا في كتابة الشعر في العراق و الوطن العربي ، و كذلك برزت اسماء أخرى مثل ( لميعة عباس عمارة ، و عاتكة وهبي الخزرجي ) و غيرهنَّ قد دخلْنَ عالم الشعر ، هذا الكائن اللذيذ ، و لا أبخس حقَّ الشواعر اللواتي سبقهنَّ في هذا المضمار على امتداد عصور سبقت ، فالأدب الأنثوي له خصوصيته و علاماته البارزة باعتباره جزءاً مهما لما يمثله من رغبة في معرفة ما يدور في دواخل المرأة و ما يجوب في خيالها تجاه الرجل و التي طالما كتب عنها قصائد غزل ملأت بطون كتب الأدب .
و في وقتنا الحاضر برزت على الساحة الشعرية أسماء لشواعر تمكَّنَّ بجدارة من الوقوف في ميدان الشعر الرحب و استطعْنَ أن يجدْنَ لهنَّ مكانا مناسبا في خريطة الشعر المعاصر اذ يعدْنَ امتدادا لجيل سبقهنِّ في هذا المجال ، و في هذه الحدود تجد الشاعرة ( بتول الدليمي ) مكانا لها بين مجايلاتها اذ تباغتنا بحسِّها الأنثوي المحبّب و انتقائها لموضوعاتها بدراية فائقة ، نشم من خلالها أدباً انثويَّا و بوحا روحيَّا شفَّافا صاغت مفرداته برشاقة و اتقان ، و لا تخلو قصائدها من هموم المرأة و تطلعاتها نحو الحياة ، فهي تلك الروح الشقيَّة الحائرة الباحثة عن فسحة امل ولربمّا كان هذا الأمل مفقوداً بدلالة الفرسان الذين رحلوا من بين ركام الحياة فهي مازالت تحلم ببراءة أنثى و رصانة امرأة متطلعة الى مستقبل افضل و لربَّما تكون تلك الأحلام مجرد اوهام يقضة ، رسمت الشاعرة ( بتول الدليمي ) في قصيدتها ( اوهام اليقظة ) صورة شعرية لفتاة تحلم بمستقبلها الذي ضاع مع السنين و بات احلام صبا و ضربا من الوهم فالفرسان قد رحلوا و امست البيوت مهبا للرياح تعبث به كيفما تشاء ، لا تخلو القصيدة من رمزية ارتدت من خلالها الشاعرة قناع الروح الذي عبرت به عن الأنثى الشقية ب( فستانها ذي الذيل الطويل و الحصان الأبيض الذي يسير بها بين نجوم الليل ) في صورة جميلة متقنة :
( شقيّةٌ انت بعدَ كلِّ هذي السنين
مازلتِ تحلمينَ بفستانٍ
ذي ذيلٍ طويلٍ
و حصان أبيضَ يسيرُ
بكِ بينَ نجوم الليلِ
بماذا تحلمينَ
فالفرسان قد رحلوا
و معهم أحلام الصّبا
تركوا البيوتَ للرّياحِ
اغتصبوا عذريّةَ النَّهارِ
و اضرموا النارَ في
القلوب )
نجحت الشاعرة ( بتول الدليمي ) في رسم صور شعريّة مركبة بحرفية و اتقان ذات أجواء رومانسية مفعمة بالحزن اللذيذ حيث صورة الفستان ذي الذيل الطويل و صورة الحصان الأبيض الذي يسير بين النجوم و صورة البيوت التي اضحت ملعبا للرياح و ثمة صورة اخرى للقلوب التي اضرمت النار بداخلها ، و ها هي( الروح - الأنثى ) تجوب بحصانها الأبيض وحيدة في زمن رحلت فيه الفرسان و اغتصبت عذرية النهار .
لا تخلو قصيدة ( اوهام اليقظة ) من زمزية محبَّبة يمكن فك شفرتها يسهولة و يسير لا تثقل من خلالها كاهل المتلقي ، تمكنت الشاعرة ( بتول الدليمي ) من صياغة تراكيب شعريَّة كان لها اثرها الواضح في البناء للقصيدة ( عذريّة النهار ، مناديل الحزن ، سأواري خيبتي ، أخلدُ للسكون ، .... ) الّأ انَّها لم تيأس فمازالت عجلة الحياة تدور و مازالت هنالك متنفَّساً للأمل رغم غيابه القسري اذ انها تبحثُ عن حلم أخر ربّما يكون الأخير ليوقظها من جديد كي تواري خيبتها و تخلد للسكون :
( شقية هي الروح
لم تكف عن الدموع
و مناديل الحزن لم تكفها
هنا سأزرع آخر حلم
هنا سأواري خيبتي
هنا سألبس كفني
و أخلد للسكون )
نشمُّ رائحة الحزن طافحة في ثنايا القصيدة تشي بذلك مفردات النص ( الحزن ، الدموع ... ) او بالدلالة عليه ( خيبتي ، الكفن ، الليل ... )
تبقى لغة القصيدة شفافة بسيطة ذات طابع رومانسي يشي برغبة الشاعرة بالخلاص لتزرع حلمها الأخير في روضة الشعر ليثمر ابداعا و تألّقا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق