أبحث عن موضوع

الأحد، 11 ديسمبر 2016

ثقب المرآة ( قصة قصيرة ) ............... بقلم : عبد الكريم الساعدي // العراق




تنهّد قُبيل أن يرتشف آخر كأس من الوهم، لامس صدغه بأنامله الناعمة كمن يحاصر فكرة ما، أو ينتزع صوراً هاربة من حصن ذاكرة تفرِد سيقانها للنسيان، انحنى لأعماقه بخشوع، معتذراً لقلبه المنهوم بالأمنيات المتكسّرة على أجنحة البراءة. في تلك اللحظة نسي ملامح وجهه معلّقة فوق المرآة الصدئة، قرب النافذة الوحيدة في الدار، عيناه تطلّان منها، لامس طرف الفراغ المعلّق برمشه، التهمته أسراب من كائنات غير حية تهتف بلا شفاه، تومئ بلا أيدي لشيء ما. كلّ شيء مرعب، كأنّها انبثقت من غياهب الكو
ن. تتحرك النافذة بحجم خوفه، تغادر ملامح تلك الكائنات الغريبة، مرّت ثوان حتى استفاق على سيل من الدماء الزرقاء لأجساد ترقص فرحة بالنقود الزاحفة لبواطنها الحبلى بالنّهم، ثمّة موتى يزرعون أرصفة الطرق بأشجار من حجر، تجرهم عربات إلى يمين الطريق. حرك أستار نافذته نحو اليسار،
- عجيب، أيّ شيء أرى؟.
بوابة من الزهور مغروسة في عيون المدينة، تنكسر على حافة أطيافها ألحان سماوية، يتوضأ بشهقة الجداول، يندفع خارج النافذة كمن يحلّق بين شفتي امرأة مرتعشة بجناح الحرمان والجفاف. تلقفته كثبان من النساء الشبقة، حاصرته بحشرجة أنفاس ملتهبة، يمدّ ذراعيه، يحتضن همس بركان هائج من الأرداف المهتزة، انفرجت شفتاه لصفعة ألسنة تقطر عشقاً، راح يلهو تحت مطر القبلات المتلاحقة، وقبل أن تقرعه امرأة شقراء بنهديها الناطّين، انزلقت يده من طرف النافذة، وبسرعة حرك النافذة يميناً وشمالاً، لا شيء سوى إطلاقات مجنونة تخترق الفراغ. استحالت النافذة طريقاً ترتصف فوق حافاته أشجار عملاقة، يعانق دويّاً لتكبير وتهليل من جموع غرباء تسير خلف جنازة، رمق الألواح المحمولة على الأكتاف بنظرة حائرة، تسارعت دقات قلبه، أصابته نوبة من الجنون،
- لا أصدق أنّك ميّت، قبل قليل كنتَ نديمي، يا لتعاستك! كيف تحلّق في السماء مخموراً؟
أنين مكبوت وحرقة ضمير، دفعاه ليكون خلف المشيّعين وفاء لصاحبه، راح يكنس حزنه بدموع خجلى، يقترب شيئاً فشيئاً من الصورة المعلقة أمام الجنازة، رمقها بنظرة وداع، فارتدّت كسيرة بالرعب حين رأى صورته، ارتدّ إلى الخلف بخطوات متعثّرة ، توارى عن الأنظار، تحسّس أعضاءه بيديه المرتعشتين رعباً،
- كيف لي أن أموتَ، ها أنا حي، ربما يشبهني.
ينطلق مذعوراً إلى منجم وجعه، هارباً من عتبة الموت، لعلّه يدرك حقيقة من يكون، الطريق يمتدّ بترنّحه، لا يسمع فيه غير شخير الليل، تلتهم خطواته طرقاً متعرجة، لم يمرّ بها من قبل، ضحكات غريبة تتعثّر بخوفه، سنابك حوافر طواطم لا مرئية، يلسعه الصريخ، يلتصق بنفسه لمّا رأى حشوداً من صور ولوحات داكنة، تحولت إلى أشباح تجري أمامه، تعبث بها الريح، نداء غريب يسحبه من طوفان انفجارات متلاحقة لظلمة ناسفة، عبوات تفجّر ذاكرته. لا شيء، النافذة مغلقة، مدّ يده بهدوء شديد، مسح مرآته الصدئة، احتضنت ملامحه ابتسامة شاحبة؛ مازال آخر كأس من الوهم معلّقاً بيده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق