سنخرجُ من جلبابِ أنفُسنا قليلاً , ولنسقطُ كلّ الأقنعة التي منعتنا عن الدخول ومعنى الخروج إلى حقيقة ذاتنا , ونهجرُ كلِّ ذلكَ الكبت والهوس المتراكم الذي قيد معاصمنا أن نحملُ زهرة , أو غصن زيتونة خضراء أو نوقدُ شمعة تعاند الظلامْ .
قلنا سنخرج دون جمع أمتعتنا ونرشف أحزمة حقائبنا نخرج لنغتسلُ بالضباب المتدلي من أعمدة السماء , نخرج لنغتسلُ بسحابةِ حملت في كلِّ قطرة مغفرة لجميع انكساراتنا..., نخرج كي نفهم أنَّا ما زلنا عرائش نخيل تعاندُ عاصفة الريح فلا تنحى شموخها.., فها هي سنتان أو ثلاثة ولا تستحضر ذاكرة النسيان التي أعياها السارقون لضفائر طفلة اجتاحت ركيزة ثلاثة وأربعين عاماً فحاولت أن أفك جدائلها كي افهمها أن يديّ لم تعد مهشمة بعد الآن ...
فها هي شظايا فكرها تصهر سريري وتطرقُ نافذتي من جديد , وتلهمني نشيد البحر , الموج , الساحل الضرير , السفائن العابرة , أعمدة الأشرعة الغارقة , ألفناره التي أضاعها الربان , أسيل سيدة فكري لا تعجبي انكسرت بلجة ريحكِ التي أعوت أضلعي فتساقطت كقطرِ الندى وهي ترنو لأمان لساحلٍ بعيد عن موانئ الغرقى والثكلى والمجانين ...
كنتُ ملهما في زيارتها ذات يوم , وكنتُ أحمل أوراق ذاكرة الأعوام الأربعين , فقلتُ لها سنخرج من هيبتنا دونَ انكسار , سنخرج ذلكَ البحر الرهيب في دواخلنا , لا يحتاجُ لشيء سوى تراتيل ويستحق أن نُردد معه صوت نشيج الموج , فقلت اعذريني إن جفت عصارة فكري وما تبقى إلا الأنين لصوتي الحزين ..
ها أنَّا عائدُ من جديد لأنكِ تفهمين وتذكرين حينَ توهجت مفردتي وقلت , إنكِ جنتي إنكِ وطناً يتسع لسخافات عاشقٍ سيءِ الحظِّ ضريرٍ تعثرت أقدامهُ في بدء الطريق فهل يستحقُ إن يعود لا لشيء يغادر بكِ لظنون المستحيل ؟!!
قالت لا تخفَ يا صغيري فأنا الماء والهواء والخبز والملح والتنور والحطب والمطر والساحل الأنيق فأناَّ الجبل وأن اجتمع المتسلقون لأعتاب قمتي وعدتكَ أنتَ وحدك لقطعتهم ريحي لنصفين لا تخف , نحن للنسيان لن ذاكرة يجترها الزمان لن نبقى طويلاً تحت أعمدة الغبار تعال لا تخف لأُرمّم تقاسيم وجهك وأرسم لوحتي بمليء تلكً العيون تعال يا صغيري لا تخف..
لن نبقى طويلاً ها هنا كي تستمعي إلى أحلامي ولن نُطيل النوم في عبق طفولتي التي غازلتها حقول القمح ولجمت أفواه الذئاب فغردت مع أسراب الطيور الراحلة والعائدة والمتكئة على سعف النخيل والمتناثرة على أواراق صفصاف اخضر وعسجده تشابك الكروم , لن نبقى طويلاً ولن نجرؤ إن نرتل بعمق لِننسج خيالات تطوف في المعبد الغريق كي لا نقلقُ الربّ الذي أختاركِ من دون سواكِ جنة لبقية عمري ....
نحن نتشابه كثيراُ يا صغيرتي لكن مكوثنا في كهف خوفنا أثقل أجفاننا إن نمتزج بنور رؤى مغايرة لكلِّ أطياف النورْ , آه يا سيدتي لو عُدتِ يوماً إلى ما كانَ دون ظنونْ سأجد تراتيل أنشودتي تغفوعلى شفتيكِ وسأجد أوتار قيثارتي التي أعارها ياني ليعزفُ أجمل مقطوعات عاندت الرماد فرسمت جمال المستحيل وتمتمت عزفاً صدقت لهُ كلّ أنفاسي فولدت نبوءة حُلّمي تتقد على جدرانِ صومعتك في أنين وحنينْ..
آه لو عُدتُ يوماً إلى ما كان وأيقظتِ وجدي ورحتِ تبحثين في قباب أنشودة المطرْ لأيقظتِ السياب من جديد وعادت نازك تحلم في عناق ضفاف دجلة وكيف يرنو الفرات للخليج , تعالي فتشي عن نفسكِ في نفسي وأرجعيني إلى الوراء إلى فضاءات السديم دون احتراق..., ستجدينَ حينها نفسي كنفسكِ وأقرب من الشهيق والزفير فلا تسدلي ستائرُ الخوف الأنيق وتشنقي حُريتي لغتي أحرف الهجاء في أبجديتي
فسلاماً على لغتي على أحرف الهجاء التي أضاءت حرفي وسلاماً لضوء سنابكِ الخيل التي رضت جسدي , وسلاماً لكلِّ رجاءات الصدى عبرَ دقات قلبي الذي اًغرق بدمعتي , لئن لا تنبض لذلكَ العناق من جديد وجب عليكَ ان تُغرق ضفاف رئتاك فتصمت ...
فأنَّا العاشق السيئ الحظّ على امتداد العصور وأنَّا الخرافة التي حدثني عنها جدتي قُبيلَ أعوامٍ كِثار قُبيلَ مولد العصور وقُبيل حضارات كل البشرْ
سيدتي أعتذر بحجم السماوات يكتفي بعمقِ ذلك اليمّ لأني أراكِ ملاكاً أخيراً يستريح على راحتي حينَ تهفوا يداكِ بالدعاء , فأعتذر لأني وجدتكِ الحارس الأمين الذي شرب رخام صدري الأنيق , فلا أودُّ أن تطيعي نوايا عاشقٌ سيء الحظّ ركبّ موج البحار ذابت على شفاههِ عذوبةِ ملح أسميتها البداية وأسميتها النهاية حينَ أسقطتني خجلاً وقالت لا تدخل صومعتي حبل مشنقة , لا ترشف عيناك نحو شرفتي قمرٌ يهجو بنورة كلّ نوافذي , لا تُتمتم أُغنية سرقها الذئب من فمِّ الرعاة , نهدي لم يعد نهد طفولة لفمِّ حالمٍ صغيرْ ....
خُذني إلى ذاكرة النسيان ولا تنحت على قلبي قُبلة , خُذني لذاكرة النسيان ولا ترسم لي سحابة مطر على جسدِ الخريف , خُذني لذاكرة النسيان وأرحل فأخشى انكسار السيف بين شغاف قلبكِ سيدي ....فدعني وسيفي لأُحاربُ كلِّ انكساراتي فدعني أكذبُ على شفتي وأنتَ وراء الليل تُطعمني قبلةٌ أزهرت كلّ رحيق الزهور في فمي , خُذني بقصيدة حبٍّ غريب لأمتدًّ عبرَ عبقّ الكلمات التي ترشفُ هالة النور خيوط حريرْ , فتشلُّ خطاي وتبدو أبجدية الرد خرساء في رعشتها حينَ تمتد ما تخفيه أغواري , أخاف عليكَ من هذا الجنون المثير وأخاف تقتلُ نفسك بكلماتٍ بحروفٍ أبجدية شقت حجرْ , فأخاف أن توهبني حُلًمُ المستحيل وانحني ....وكنتُ في آخر الليل أحصي على شفتيك نبوءة تسابيح الفجر وتراتيل أنشودة عصافير الصباح وأحصي أوراق سدرتي الدافئة التي غازلها النجم والقمرْ فأعيت الريح وكلِّ الفصول وأرضعت ثدي النهر من تلكَ الجذور فتخطى الضفتين فتنسابُ كنسمةٍ ساحرة حركت شرائع السفائن التي أعوت حضن الموانئ الصامتة فرحلتُ على أهدابِ عينيكِ أرسمُ وجه الكون أرسمُ طفلاً يأكلُ حلوى لكن الطفلُ مسكين أرسمُ وجهكِ في لونِ الأزهار البرية فوقً جبيني خصلة شعر قمحي ترخي سدول البحر تتراقص كلِّ الأمواج تُلّثم جدران رصيف القلب المبحر عبرَ عيناكِ الخمرية أخفي كلّ شقوق الجدران الصخرية ما أقسى حُلّمي سيدتي حينَ ترجُّ يداكِ تقاسيم الوجه الأسمر مجدافٌ بلون الفجر وطعم الملح وجداول من مطرٍ جائع لن تنضب من حبُّكِ سيدتي , وتظلُّ الكلمات حيرى حينَ تنأى بامرأة كحجمكِ سيدتي ..... تسألُ عنك تحملك وطناً أخضر طائر سوننا شقت أجنحةِ البحر الأبيض وطلَّ حنين ينفثُّ دفيء يغفو بين أحضان جلبابٌ لأعمدة خيزرانٌ مثل النور المبتل المتدفق من أغوار الجبل الأسمرْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق