عباس باني المالكي رؤية جلية في العنونة وعلم السيموطيقيا أن العنوان مفتاحا في أي متن ، فهو عتبة النص وهويته ، وهو عملية تأشير النص وقد جاء في لسان العرب حيث يقول ابن سيده :(العُنوان أو العِنوان سمة الكتاب . وعنونه وسمه بعنوان ..وقال أيضا : وفي جبهته عنوان من كثرة السجود،ولابد للعنوان ان يعطي الندية والانتباه والشمول ، لذا اختزل الكاتب نصوصه بعنوان ( التسول في حضرة الملك )أما السيميوطيقا فعلم يدخل جزءا كبيرا منه في عالم العنونة فالموضوعية منها جاءت مع كريماص تهتم بالأشياء في علاقة تركيبية مع الذات الفاعلة، فإن السيميوطيقا الذاتية مع جان كلود كوكي تعنى بدراسة الذات دلاليا بغية رصد مختلف التفاعلات الإدراكية الحسية والجسدية التي تقيمها الذات الحاضرة مع العالم الخارجي أو الحسي. ومن ثم، تنطلق من مقتربين متكاملين: المقترب اللساني اللفظي ، والمقترب الظاهراتي للإدراك . ويعني هذا أن السيميوطيقا الذاتية تدرس الذاتين : المتلفظة والإدراكية في تفاعلهما مع العالم الخارجي بما فيه من أشياء وأشكال وحركة وزمان ومكان . ومن ثم ، فهي تدرس انفعالات الذات الداخلية على مستوى المضمون من ناحية، و تحلل أحاسيسها تجاه العالم الخارجي على مستوى التعبير من ناحية أخرى
الاصطدام الأول والإطلالة الأخاذة بصفحة الغلاف الخارجي ، حيث تواجهك لافتة أشارية كبيرة[التسول في حضرة الملك] برد فعل أولي مقارب لحجم العنوان ،حيث يتسع لمساحة من التأمل في التضاد المعنوي على إن التسول دائماً يحدث بالطرقات أو الأسواق الذي يكون متلاصقا بالحركة والسير بأي طريقة من طرق الاستجداء.إضافة إلى الشكل العام للكلمة وما تضيفه من صورة باعثة لتعطي القارئ تغذية راجعة لصورة المتسول وملابسه ، ودلالات في مواقف متعددة تستنكر أن شخصاً بهندامه الذي نراه يومياً يدخل على حضرة صورية لخلفية تأريخية مفخمة .أما حضرة قد تكون حوش البلاط الملكي ،وتصور ماذا يكون ديوان الملك أمن تراب ؟ لذا يتبادر يجب ان يُعمل من الرخام أو أي شيء ممكن من درجات الرقي .فكيف لهذا المتسول ليلج صرح الطغيان ؟أما حضرة ففي القول تدل على حضور المعني سواء أكان ملكاً أو أميراً أو محافظاً ،يعني أنه متواجد أمام عينيه وبما نملك من عمق الخشية والخوف ،وما للسلطان من سطوة .إذن لماذا وضعنا المالكي تحت ظلِّ هذه اللوحة القاهرة المعنى ؟ فكل معني بالقراءة يستشف معاناة الأديب أو الفرد العراقي أمس واليوم والتفاوت الكبير بين التسخير ، والإهمال بين الدكتاتورية المقيتة والإنفلات المغطى بجلابيب الديمقراطية السيئة .وما يلف النظر صغر حجم كلمة( شعر) أسفل اللوحة البارزة بحيث تصاغرت لدرجة الخجل . فهل كان الإيحاء صحيحاً ،مقصوداً أو غير ؟ وهل وصل الشعر العربي إلى حدِّ التصغير ، وهو الذي كان أمضى من السيف على عروش الملوك ووسيلة إعلامية لاهبة ، حديث السمر وأمثلة الحكمة ، فقد وصل منوال التأييد بروح القدس.أأثرت وسائل الإعلام والتطور على المحيط الزاخر الهائج الغاضب تارة ، والذي يسبُّ كل كرسي وهو صاغر بمن فيه ، رغم لجبة جيوش خدمته وجعجعة فرسانه ،وسطوت العرب وصوت حنينهم ، ونداء الأرواح حينما تبتهل في كراديس المعابد وفضاءات الليل البهيم فتنيره بمواكب من النجوم والأقمار الدرية المصطنعة ، ويلتحف القفر فيلبسها أردية العطاء والثراء والغنى العشقي ، ولا يحد بقلاع أو حصون .نزولا إلى لوحة الغلاف التي أفاضت باهتياجات متعاكسة بشطر الثمرة القمرية الحمراء ، والانزياح الفني ، ومقدار الإضاءة الممنوحة خلفها لتوطن الظلَّ والظلام بين الشطرين الغير ملتحمين ، إذن فعل القطع الحاد وقوته تحرك للجزء باهتزازات قهرية ، فكان شبه قمر دامي قتل عند اكتمال عشقه أسفاً وتجرحاً .إضافة إلى دكنة اللون وبؤرة اجتياح كمية الظلام وثقله إلى كمية اندحار الضوء الذي لم يحد من الإرتحال مخذولاً يشبه الأصيل .أما عملية اللون في أواني اللوحة المهرأة توحي إلى زمن الخسارات وعتق المصنوع وان الوقت وعصف الأيام لم يترك الأشياء على حقيقة عنفوانها ، أهدر حجم الشباب فيها ، ومن قنينة تقطّر القمر المدمى لم تتركه لكي يفترش الثرى ، لأنه سيجمع وربما لا يرى مقدار النزف لأنه محفوف بأُطر الكتم والإغلاق وعموماً لا تتنافر من حيث المعنى والمضمون بل تتعاضد تكاملياً. على مَنْ يروم نزف القمر المدمى هي كالمتسول في بلاط بهي وعصي . والتدرج لدخول المنجز للقدم في التوطئة : نلتقي بــــ(البداية) افتتاح صائب للمجموعة من الآهات متعدد العثرات والكبوات في أغلبية معنوناتها لا تمتلك مواقع جلوس .فكانت البداية ،وضع ندائي تمني يحمل من اليأس والقنوط منتهى الغاية: أيها القمر إنّك حقاً رجل متى تأتي لتقتل السلطان وترك البداية بلا علامة استفهام ،لأنها حالة ترجي (متى تأتي) حالة خفوت الحضور لبلاط الملك.وأنا أحبو بدروب المعنونات أتعثر بذاكرة كبيرة جدا، حملت تأريخ آدم وأولاده وما حملت النبات وحيوان وجماد وماء أحيا به الله كل متنفس ألا أنها (الذاكرة) قد يقتلها النسيان ، ولن تستطيع إبلاغنا احتمالات الشيخوخة في الشجر والكلمات والوطن والأرض.. ودخولي على ( إحجيات الرماد) الإختلاف بيّن ما بين الألغاز والأحاجي ،فالرماد الذي يترك نتيجة الاحتراق ،تذريه الرياح والهبوب حيث شاءت فماذا يقدم لنا على طبق المعرفة غير انطفاء رسوم وألوان وأقمار وأزهار معنوية أكثر مادية ، وعاطفية نفسية ،أصبحت احجيات لا تحل لأن الحرق أمساها رماداً .أما القصيدة التي تبقى عالقة كمعنون هي (يوتوبيا بلاد الموت) ( ويوتوبيا : لفظ يوناني أو توبوس ومعناه لامكان –توماس مور 1516 وألف كتاب باسم يوتوبيا وكان أول من استخدم التعبير صور فيه دولة مثالية يتحقق فيها الخير والسعادة للناس وتمحى الشرور وبقت الكلمة توصف لكل عمل أدبي أو فلسفي بخصوص المدينة الفاضلة ). ويعد من أشهر كتب اليوتوبيا لأفلاطون(جمهورية أفلاطون) وترتبط بعالم الخيال ولا علاقة لهما بالواقع .وقد احتوت القصيدة معاني المفردات نفسية وأمرض (الشيزوفرينيا ،والنقرس والسلفس وحتى أماكن الطاعون ) لتدل على انهيار الروح عندما يكون الملك أقل أنسنة من مستويات الحق الإنساني. ومن نزوعه الإنساني يثير جدلية عابثة في معنونة (أحلام بلا أبواب) وما يسلب اللب هذا البيت(حين نزعت عن يدي أصفاد ليال معطوبة الضوء؟!)لقد نسى تبويب أحلامه لأنها أصلاً على يد متسول ،كأنما الأرض فرت .... ، ألَم يكن العنوان فارغاً من المحتوى المائي الذي يصلح نبات الفكر والتفكر في غاية الأحلام لأمد الوقت الذي تنبت به على الأرض .فلا بد من باب لممر تحقيقها لكن الفاقدين كثر ( الضوء – العدالة- الطيور- الأمل- الروح وبعض مقتنيات القلب). (النزول إلى الأرض) مشبع هذا النزول كأن يكون الرضوخ على أمر كوني كما في المقطع الأول منها .وهو التشبث بحلم بعد مرور أيام العمر أو البحث عن الاستقرار لغاية مكانية بحتة والتثبت بالأرض .أما (الأشعارات) فهي من داخلة تتعامد ولا تلتقي على قارعة التقاطع ، مستقلة متوازية لحلم البقاء والثبات في كل تخوم الاخلاق والمواطنة ومروج الإنسانية التي أقحلت .ولـــ(تأريخ الأسماء) مرحلة شقاء تعيش الأزمة . فكل تاريخها إنها ولدت بأسمائها فاسدة: المطر غسل دموع الأنهار بقذارات المدن المنفية والسندباد عاد منتحراً إلى البحر !!! وقد أكمل في(قراءة في دفاتر العويل)انصباب رأسه على دفاتر الصوت المحزن إذ تحولت (بيوت القضاة إلى رماد) لكثرة اللصوص وانكسار فوانيس الضوء ، إنها تكشف عورات الظلام وأجساد الأشباح ، لأن الصقور نست قمم الشموخ .فنأى بنفسه إلى(الذي لا يأتي) بمطولة من المستحيل بعودة الأقدام من مدن منفية ، كما ذهبت واثقة من خطوتها في مزالق التيه على أرصفة التسول. ففي ( حماقات الانتظار).. (تتكرر المسافات عند أبواب مثقلة بالجثث والمصاحف //فينزل مخاض السماء دماءاً .. رقاباً.. رؤوساً وشظايا تفزع الموتى) ألا يعني الهروب أهون الشرين مابين الموت والضياع .فلِم الانتظار على أرصفة الحماقات .أليس من الأجدى البحث عن السعي بمناكبها المترامية ، كي يمتطي (مدارج الإحتظار) في سلم العودة إلى البرزخ أفضل من البقاء في عالم ، استوطن فيه الخفّاش مدارج الدين ،وانتحى صوت الرسل إلى كهوف ملأت الورق أنيناً من الهجر .حيث أصبح المنتفعون حراس أبواق الكلمات التي يمتطونها في مدارج الصعود إلى قمة الهاوية .كل شيء في عالم التسول يترك رماداً يذر دوماً في عيون(النور – الهدوء- الإيمان- الإنسانية – حتى الأحلام) لذا لم ينسى المالكي (رماد الطلاسم) لأنه عالمه المكتض باللا تفسير من تسنّم المراتب ،واختفاء الجبال ،وعقم المياه ومن أن تحيي النبات كلها طلاسم لديه لا يفهمها. وذات قدم اجترح أن يرفعها ليبدأ مرحلة (الخروج من العزلة ) فهو لم ينكسر إنمّا ازداد قوة ، ليحرق سفنه المؤدية الى شواطيء الترك ففي الأرض متسع لحركة عالمه المنكفيء وان جاء منتصراً . لكي يرى (فاكهة الخطيئة) عند معترك المرأة وبدأ الجريمة الأولى ،للحصول على الثمرة التي نبغي ، مارّاً بــ(أحاجي المدن المفقودة) وطفو الفئران . حتى انه لم يجد القمر الذي قضمته بأسنانها في زمن التردي . وأين المدن التي كان الحب زادها ؟ خلت وانتحت نحو صحراء المادة ، وأصبحت العدالة مذبوحة وقد صمتت أو شمعت أبوابها بتمائم من صراخ .ولم يأتي برماد أو سخام أو بقايا من جمر ( الأشجار تحترق واقفة ) بشيء عاد على خيول الخوف مُعَمَداً بعتمةٍ ، ترميه العصافير بضحكة لأن السماء فضاء أشرعتها وإبحارها وأشجارها المحترقة ، جذوعاً تساقطت ولاداتها ، ثكلى يقلّب حزنها الريح .ومن ( سعادات الخريف) أوجد التضاد على إن الانقضاء والإنتفاء أصبح نافذة للسعادة بترك مالا يستحق لإختلال بموازين قوى الأخلاق ، فانعكس المشهد الحياتي مابين الحق والباطل ، والخير والشر ، والصح والخطأ ، ليطلّ على بلاده من ( شرفة في وطن) عملية الإنكار في العنوان تعطي المتلقي هيولة الضياع لعدم تحديد ماهية كلمة (وطن) . لقد خلا من مكانية الإلتصاق والتجذر وقوة الثبات على ارض توارثت سلالاته . وبات (انتظار في زمن الثلج) رحلة العودة إلى الدفء العائلي ، العودة إلى الدفء الوطني ، العودة إلى المحبة ، بانتظار المولود الصحيح في زمن أصح . واعتقد شاخت الطرقات بأقدامه ، حيث يرى التمزق والتشتت في كل جزء من الوطن . أختم مع معنونات نفثه بتسائل عن موت (حقاً كان يحتضر) أطلق فيها ما جمّع خلال رحلة الصبر والإنتكاسات (38) مقطع ليملأ حجم هول الإحتضار حينما لا تسول يفي ، ولا يكفي ، ولا يعي مصائب الحاجة في النفس القلقة الفياضة بالشعور الإنساني الخلاق ، ومع تعاظم الحزن في ثقل هزائم الحضارات وانشطار الشرايين الدافقة على أبواب المنافي ، انبتت نياب التعسف والفراق والعتمة ، فكيف تحصل على التوازن على العودة من مرافيء الغربة بينما ((السندباد حرق كل السفن العائدة إلى بغداد))متى ننتصر على أنفسنا لنعيد البناء الروحي و(عمري صار تأريخاً ينقصه الوقت) . فهل سنعيد الماضي لنستلهم منه وهل الوقت صاغراً ؟ أعتقد بأن عباس باني وصل بمستقر تسوله إلى النهاية ..استجدى الموت فلم يجده لأنه أصلاً لم يكن حيّاً حين يقول عند الإغلاق : فليرسلونا إلى المقصلة نحن بلا رؤوس ..................................... عيال الظالمي\\\30\11\2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق